الغربال المعرفي ينتقي الجواهر ويُسقط ما عداها

بقلم المستشار الإعلامي ـ خليل القريبي
وقعت عيناي مؤخراً على مقولة للروائي والناقد الفرنسي أناتول فرانس، قال فيها: أن تكون متعلماً لا يعني أن تختزن الكثير من المعلومات في ذاكرتك، بل أن تكون قادراً على أن تعرف الفرق بين المعلومات التي تستحق أن تُخزَّن إلى الأبد والمعلومات التي يجب أن تُمحى على الفور.
وأقول: فن التمييز هو جوهر الاطلاع الحقيقي الذي يتخطى حدود مجرد تخزين المعلومات في الذاكرة. في عالمنا الحديث، حيث تسيل المعلومات بغزارة عبر مختلف الوسائل، يبرز دور التفكير النقدي والقدرة على التمييز كمفتاح لفهم أعمق وأكثر حكمة. إن الربط التقليدي بين المعرفة وتكديس ما يمكن استيعابه من حقائق وأرقام يُعتبر منظورًا قاصرًا، إذ أن الاطلاع الحقيقي يُعرف بامتلاك مهارات تحليلية تسمح للفرد بانتقاء المعلومة ذات القيمة العالية وإقصاء ما لا يستحق الاهتمام أو قد يكون مضللًا. التركيز على تكثيف الحفظ بلا قصد يجعل من المتعلمين مجرد "حافظين"، غير قادرين على تطبيق ما يعرفونه أو ربطه بسياقات حياتية متعددة. يصبح العقل حينها أقرب لمكتبة مليئة بالكتب العشوائية دون نظام يُسهِّل الوصول إلى المعلومة المناسبة، مما يعيق الاستخدام الأمثل لهذه المعرفة. بالمقابل، فإن العقل المتدرب على التمييز يمتلك أدوات فعّالة تُشبَّه بـ"غربال معرفي" ينتقي الجواهر ويُسقط ما عداها. يأتي هذا الفن عبر القدرة على تطبيق المبادئ الأساسية والقواعد الرئيسية في مجالات مختلفة، وهو نتاج عملية التأمل والتحليل والتحقق المستمر من المصادر. على سبيل المثال، فهم قوانين الفيزياء يستطيع أن يفسر الظواهر الطبيعية ويخلق تطبيقات جديدة، بينما حفظ تفاصيل هامشية ينتهي غالبًا بطابع مؤقت. وبقدر أهمية القدرة على الاحتفاظ بالمعلومات القيمة، فإن القدرة على تجاهل المعلومات الزائفة أو غير الضرورية تظل ذات وزن مماثل. في العصر الرقمي، حيث تنتشر الأخبار الكاذبة والإشاعات بسرعة كبيرة، يمثل التمييز بين الحقيقة والزيف درعًا رئيسيًا يحمي الأفراد من الوقوع في دائرة المعتقدات الخاطئة أو اتخاذ قرارات مغلوطة. فالمطلع الحقيقي يوفر لنفسه حصانة معرفية تُعينه في مواجهة المعلومات المُضللة وتُوجّهه نحو ما يستحق الفهم العميق.
من هذا المنظور، يجب أن تُعاد هيكلة الاطلاع المعرفي ليكون منصبًا على تنمية التفكير النقدي والقدرات التحليلية. لا يمكن الاكتفاء بحفظ معلومات مُعدة مسبقًا بل يجب التعوُّد على طرح الأسئلة، استكشاف الحقائق، وتطوير وجهات نظر مُعتمدة على أدلة حقيقية وتحليل متزن. ويجب أن ينتقل دور المكتبات ودور النشر من كونها مصدرًا للمعرفة إلى مُرشدة توجه طلاب المعرفة نحو تطوير مهاراتهم الذاتية وتعزيز اطلاعاتهم الفكرية. الاطلاع بهذا الشكل يُصبح ليس مجرد عملية تجميع بيانات، بل رحلة تُصقل فيها أدوات التمييز والإدراك. إن المطلع الحقيقي هو من يجيد استخدام "فلتر" معرفي يصفِّي القيمة من الشوائب، ويحتفظ بما يُثري عقله ويُمكّنه من رؤية العالم بنظرة واضحة وعميقة. إنه ذاك الشخص الذي يعرف متى يحتفظ بالمعلومة ومتى يتركها تذهب، ليكون مستعدًا للتعامل مع عصر يتسم بفيض هائل من المعلومات المتغيرة دائمًا.