|

التغافل المذموم

الكاتب : الحدث 2022-10-30 06:35:22

 

بقلم/ حسين بن سعيد الحسنية 
h_alhasaneih
 

( تغافل عنهم لتسود عليهم.. الحكمة كلها في التغافل.. اسمع من هنا وأخرج من هنا.. اعتبر أن الأمر لا يعنيك.. تجاهلك إيّاهم انتصارٌ لك عليهم) إلى آخر تلك الجُمَل التي تأتيك تِباعاً حينما يقسو عليك أحدهم بكلمة أو تصرف أو تعامل، فتضطرّ إما للصمت أو المغادرة وقلبك محمّلٌ بجروح غائرة لا تُشفى مع مرور الأيام والشهور، ومحمّلٌ أيضاً بتلك الكراهية لكل من أخطأ عليك وقابلت خطأه ( مُكرهاً ) بالتغافل، ويصبح التغافل بعد أن كان عنواناً للعفو والتسامح وسلامة الصدور سلاحاً يشهره أصحاب الألسنة الحِداد الفجّة والتصرفات المقيتة مع الآخرين.
 

أنا لست ضد التغافل بمعناه المحمود الرائع والذي يسوق أصحابه للتفاعل الإيجابي مع بعضهم البعض من خلال مبادئ العفو والتسامح والمصالحة ورأب الصدع والمحافظة على المشاعر ومراعاة الخواطر وغيرها، ولا أرفض تلك النداءات التي تدعو إلى أن يصبّر كلٌّ منّا الآخر عند حصول الاختلاف، وأن نقابل إساءة الآخرين بالإحسان، ولكنّي ضدّ ما أٍسميتهُ هنا بـ ( التغافل المذموم ) الذي يرضاه البعض على أنفسهم لإيمانهم على الإطلاق ( أكرر .. على الإطلاق ) بأنّ التغافل صالح في كل زمان ومكان ومع أيّ إنسان أو موقف أو حدث وأيّاً كانت العواقب والتبعات، وإليك بعضاً من صوره:
 

التغافل المذموم الذي يجعل صاحبه يقبل الإهانة على نفسه متجاوزاً كل تلك الكلمات الجارحة والعبارات القاسية التي قد يصل بعضها إلى القذف الصريح أو المبطّن ثم يحْجم عن الرد ظنّاً منه أن الرد لا فائدة منه، أو أنّ من الأفضل عدم الرد إمّا خوفاً أو اضطراراً أو احتساباً للأجر، مما جعله صيداً سهلاً لكل متجاوز ومتعدٍّ من الناس، حتى يتفاقم الحقد وتتضاعف الكراهية في قلبه على الجميع.
 

التغافل المذموم حينما يرى صاحبه الأخطاء تتكرر في بيته وحيّه ومقر عمله ومجتمعه بشكل عام، ويرى كذلك ما تفعله تلك الأخطاء على الفرد والمجتمع، ويشعر يقيناً بأن مجتمعه سائرٌ إلى الهاوية ومع كل ما تقدّم لا يُحرك ساكناً ولا يُقيم معوجّاً ولا يُعدّل مائلاً وكأن الأمر لا يعنيه، وكأنه ليس جزءً من واقعه وأنّه سالم مما سيصيب الآخرين وناجٍ من ويلات مجتمعه.
 

التغافل المذموم متى ما رَضِي صاحبه الظلم على نفسه، فيسكت عن حقوقه المشروعة، ويقبل ما يأتيه مع أنه يستحق الأكثر، ولا مشكلة عنده في التأخر عن الآخرين رغم تفوّقه عليهم، ويؤخذ من مكتسباته المادية والمعنوية وكأن شيئاً لم يكن، فيضيع كل شيء له بسبب تغافله ذلك, وأدهى وأمر من ذلك أنّ الضياع قد يكون موصولاً لأولاده وبيته شَعُر بذلك أو لم يشعر.
 

التغافل المذموم حينما يساء لصاحبه عشرين مرة ويُتهجّم عليه أربعين مرة، ويُنال من عرضه ستين مرة، ويُلعن ويُسبّ ويُشتم ثمانين مرة، ويُتعدّى عليه مائة مرة .. وهو في كل مرة يخفض رأسه ويرخي سمعه ويغض بصره انكساراً وضعفاً وانهزاميةً وتسأله عن السبب فيقول: الحكمة كلّها في التغافل، حتى يصبح مثالاً للضعف والذلّة والهوان يكسرُ قوام ظهره كُلّ أحد – أيّ أحد - بأدنى كلمة سوء يقولها له.
 

ختاماً.. علينا أن نفرّق بين التغافل المشروع والذي يكون سبباً في الوصل لا القطيعة والحب لا الكراهية والعدل لا الظلم وبين التغافل المذموم الذي به تُهان الكرامة وتضيّع القيم وتُسلب الحقوق.

 
من كتابي #وحي_الأمكنة