50 عاما لأبدأ
بقلم ـ د. جابر شراحيلي
قفزت بعض الأسئلة لذهني عندما جاءت الفكرة لي وبدأت بكتابة أول حرف في هذا المقال.
ما الذي أثار فكرة هذا المقال؟ ولماذا 50 وليس 40 أو 60 عاما؟
هل هو شعور بالثقة بأن هناك المزيد لأقوم به في حياتي؟
هل الشعور كاف لتحقيق الأهداف وإنجاز الإنجازات؟
وهل كلما جاء للمرء إحساس بالثقة يكون الأمر في متناول اليد؟ أم أن واقع الحياة يفرض نفسه ويتحطم عليه كل ثقة وشعور؟
هل الواقع الذي أعيشه من استقرار في كل مناحي الحياة الوظيفية والأسرية والمادية والصحية هو وراء هذا الطموح لأبدأ من جديد؟
ثم ما الذي سأفعله أكثر مما قمت به من الحصول على شهادات متعددة وتخصصات مختلفة وتأليف كتب في مختلف الموضوعات وعيش الحياة بكل ما فيها من متع؟
وقبل هذا وذاك: هل هي خمسون حقا؟
سأبدأ من السؤال الأخير:
الاحتمال المرجح أنها خمسون، تزيد أو تنقص قليلا لا يؤثر في سياق الزمن. كانت الولادة في قرية نائية جدا عن كل المدن ولم يكن هناك مستشفى بل ولا حتى مستوصف. وكانت كمثلها من الولادات في المنزل بلا شهادة ميلاد ولا توثيق. بدأت الطفولة كأي طفل في قرية بعيدة لا يوجد بها سوى بيوت من الخشب وحياة بسيطة جدا. لا يوجد في ذاكرتي إلا القليل من تلك اللحظات التي كنت أقضيها في اللعب بالتراب مع أقراني. لكني عندما كبرت ورأيت الصغار عرفت أنني مررت بما يمرون به الآن فتكونت صورة في ذهني عن طفولتي.
كبرت قليلا فتحملت مسؤولية الرعي ونجحت فيه وكنت من أكثر الأطفال محافظة على أغنامي. عندما كبرت أكثر قرر أهلي أن ألتحق بالمدرسة كبقية الأطفال. أخذوني لمستوصف بعيد في قرية بعيدة لطبيب المستوصف ليقرر عمري.
قال الطبيب: أعطوه هذا العمر، وحينها تحدد عمري وسجل بتاريخ 1/7 (أي من نصف السنة) ككثير من الناس.
من هنا يكون الاحتمال الأكبر أنها خمسون سنة قد تختلف من التاريخ الهجري إلى التاريخ الميلادي.
بدأت المرحلة الابتدائية ثم المتوسطة والثانوية وما فيها من نجاحات باهرة أشرت لها في كتابي (الدرب الصعب نزيف القلب في كلية الطب) ثم جاءت كلية الطب وفيها ما فيها وقد ذكرته في نفس الكتاب. ثم بدأت رحلة طويلة بعد الكلية.
عندما تخرجت كنت مثقلا بكل شيء من هموم النفس وجهد الجسد وثقل الدين.
طمحت للالتحاق بالعسكرية طمعا في زيادة رواتب الأطباء، لكنني تراجعت عندما علمت أن هناك فترة تدريبية لشهور يكون فيها الراتب قليلا وأنا مدين للناس.
ذهبت لكلية الطب وطلبت الالتحاق بقسم التشريح لأنه لا يسجل به أحد. لكنني اصطدمت بعدم وجود وظائف وقالوا: عليَّ أن أنتظر سنة ربما تكون هناك وظائف.
لم أستطع الانتظار فثقل الدين وضيق ما في اليد وضعف الحال أزعجني واستحييت أن أتأخر عن الدائنين، خاصة أنهم صبروا حتى تخرجت وليس من اللائق أن أؤجل مستحقاتهم لتحقيق طموحاتي.
كنت قد قررت أن لا أتخصص في مجال مرهق كالجراحة وغيرها. ذهبت للصحة النفسية لأنها مريحة نوعا ما والأهم أنه كان فيها زيادة في الراتب.
من أول يوم من التخرج نفذت قرارات اتخذتها أيام كلية الطب حتى أعيد الاستقرار لحياتي لأنطلق لمستقبل أريده.
نجحت في إزالة كثير من منغصات حياتي واتخذت إجراءات قوية ما زالت سارية حتى هذا العمر. قضيت ديني كله في فترة قصيرة بعد أن أدرت الوضع المادي بكثير من الحرص ومسك اليد. حصلت على سيارة وبدأت هواية السفر والسهر والمتعة وأغلقت كل الأبواب المزعجة.
وضعت معادلة التخلص من الماضي وعيش الحاضر وبناء المستقبل ونجحت في الوصل العبقري بين أزمنتي الثلاثة؛ أمسى ويومي وغدي لتستمر حياتي بلا انقطاع.
توالت الإنجازات في حياتي في كل مجال حتى وصلت إلى ما أنا فيه.
طبعا أقول إنجازاتي من وجهة نظري أنا ومعاييري أنا وتقييمي وقياسي لإنجازاتي أنا وليس لما يراه غيري.
عندما وصلت الخمسين رأيت أنني قد حققت كل ما أريده، واستمتعت بكل ما في الحياة، ورضيت عن نفسي كل الرضى، وتعادلت في مبارزتي مع الزمن. حينها خشيت أن يتسرب الوهن إلى نفسي، وأن تنطفئ جذوة الحماس عندي، وأركن للكسل والقناعة، خاصة بعدما وجدت أني أملك الكثير من القدرات الحياتية المحسوسة التي تساعدني على الإبداع وفوقها تجربة كبرى في الحياة أنارت لي الطريق، ووجدت روح الطموح والثقة بالنجاح يدفعانني لأبدأ مرحلة جديدة، قررت أن أبدأ هنا في الخمسين وأن ألزم نفسي بذلك وهذا هو الدافع وراء هذا المقال.
أعتبر هذا المقال التزاما أمام نفسي يدفعني إلى عمل المزيد.
ما سأقوم به مستقبلا، لو قدر الله لي الحياة، هو الجواب على تساؤلي: ما الذي سأفعله أكثر مما عملته؟ ثم إذا كان ما سينجز في بقية العمر أقل من أو مثل ما مضى فلا حاجة لي بعمل أي شيء.
إضافة إلى الإنجازات التي أطمح إليها، فإن ما سأعمله يبعد عني حياة العزلة ويجعل حياتي ملآنة بالأنس وحب الجمال والحياة حتى النهاية.
كما أني أوجه رسالة في هذا المقال لكل إنسان: بأنه يستطيع أن يبدأ في أي لحظة من العمر.