|

الأسرة والمدرسة والذات ..

الكاتب : الحدث 2025-11-13 03:26:30


✍🏼 فواز عمر بدري
تربوي و إداري

في كل مجتمع يسعى للنهوض، تظلّ الأسرة والمدرسة والذات أضلاع المثلث الأهم في صناعة الإنسان المتوازن. فالمعرفة وحدها، مهما بلغت درجتها، لا تكفي إن لم تسندها القيم والسلوك، ولا تزدهر الشخصية إن لم يكن بين هذه الأضلاع تناغم وتكامل.

الأسرة هي النواة الأولى، والمحضن الأعمق الذي تتشكل فيه ملامح الشخصية، وتُغرس فيه البذور الأولى للأخلاق والانضباط. فالوالدان ليسا مجرد راعيين لشؤون المأكل والمشرب، بل هما البوابة التي يدخل منها الأبناء إلى الحياة بقيمهم واتزانهم النفسي. وحين يكتفي الأب أو الأم بدور المراقب عن بُعد، تاركين المدرسة تواجه وحدها مظاهر الانحراف أو الإهمال، فإن الخلل يبدأ بالتوسع حتى يمسّ نسيج المجتمع كله.

التكامل بين الأسرة والمدرسة ليس ترفًا تربويًا، بل ضرورة لحماية الأبناء من التشتت بين القيم النظرية والممارسات اليومية. فعندما ينسجم التوجيه المنزلي مع الإرشاد المدرسي، تتكون لدى الطالب شخصية متماسكة، يعرف ما يريد، ويدرك لماذا يُفترض أن يسلك الطريق الصحيح. أما إذا تناقض الخطاب التربوي في البيت مع ما يتلقاه في المدرسة، عاش الطالب صراعًا داخليًا يفقده بوصلته الأخلاقية والاجتماعية.

ومن المؤسف أن ترى شابًا متفوقًا في درجاته العلمية، لكنه متعثّر في سلوكه أو متقلب في مزاجه، لأن التعليم لم يواكبه تربية. إن المجتمع لا يجني ثمرة طالبٍ يحسن الإجابة على الورق لكنه يعجز عن التعامل بأدبٍ واحترام. فالعلم بلا خلقٍ سلاحٌ قد يرتد على صاحبه وعلى من حوله. وهنا يظهر الفرق بين “المتعلم” و”المتأدب بالعلم”، فالأول يحفظ النصوص، والثاني يعيش قيمها.

ولا يمكن إغفال أن بعض السلوكيات السلبية لدى الأبناء تعود جذورها إلى اضطراب المناخ الأسري. فحين تسود الخلافات بين الوالدين، ويغيب الحوار أو تتصاعد المشاحنات، يصبح الأبناء مرآة لذلك الصراع. ينعكس القلق في نظراتهم، والغضب في تصرفاتهم، والانطواء أو العدوان في تعاملهم مع الآخرين. إنهم ضحايا صامتون لحروبٍ لا تخصّهم، لكنهم يدفعون ثمنها غاليًا في سلوكهم ومستقبلهم.

لهذا، لا يمكن أن تنجح أي منظومة تعليمية ما لم تمتد يد الأسرة لتصافح يد المدرسة، وما لم يُدرِك الأبوان أن التربية مسؤولية مستمرة لا تنتهي عند باب الفصل الدراسي. فكل كلمة، وكل نظرة، وكل تصرف في البيت، إما أن يُصلح، أو يُفسد.

إننا نحتاج إلى جيلٍ يجمع بين التفوق العلمي والنضج السلوكي، بين الذكاء العقلي والذكاء العاطفي، بين الطموح الفردي والوعي الاجتماعي. فبذلك فقط نصنع إنسانًا نافعًا لنفسه ولمجتمعه، ونؤسس لمستقبلٍ لا يُبنى بالدرجات، بل بالقيم .