|

ضحايا السيول

الكاتب : الحدث 2024-08-25 03:08:55

علي بن أحمد الزبيدي  

في كل عام نستبشر بالأمطار في أواخر الصيف وبدايات الخريف ، وتسيل الأودية والشعاب ، فيخرج الناس ليروّحوا عن أنفسهم، وليستمتعوا بالأجواء برفقة عائلاتهم أو أصدقائهم، وليشاهدوا عظمة الخالق في تلك السيول الهادرة التي تطوي الأرض طيّاً ، وتحمل معها كل ما يقف في وجهها من صخور وأشجار وأناسي وحيوانات وبيوتات ، فالسيل لا يوقّر كبيرًا ولا يرحم صغيرًا ، و مَنْ يقف في وجهه فمصيره الابتلاع ، وإن قدّر له البقاء على قيد الحياة فتلك نعمة توجب الحمد كثيرًا .

في هذه الأيام يصرخ الحكماء والناصحون في الناس أن ابقوا في بيوتكم ، وإن كان ولابد فابتعدوا عن مواطن الهلاك، ولم يكن صراخهم من باب الترف لكنّ الآذان التي اعتادت على الصمم والعقول المتحجرة جعلتهم يرفعون الصوت لعلّ أذنًا تسمع أو قلبًا يعي قبل أن تبكي العيون وتتفطر القلوب .

في كل عام نسمع عن فقدان عزيز بسبب السيل، ويحزننا أنّ الفقد لم يكن بسبب هجوم السيل على ذلك الإنسان ، بل بسبب اعتراض الإنسان لمسار السيل وتحديه لذلك الوحش الكاسر، إنّ ما تتناقله وسائل التواصل الاجتماعي من تحديات لبعض المتهورين في اجتياز الأودية وقت هطول الأمطار ، أو دخول البعض في السيل ، ومحاولة خروجهم منه لهو نوع من الانتحار الذي يوجب العقوبة على مَنْ ينجو ، ونسأل الله المغفرة لمَنْ يبتلعه السيل غير آبه بصرخاته ودموعه، وإنّ المؤلم جدًا ما نراه من تهّور لبعض أرباب الأسر حين يغامر بعائلته ليثبت لهم رجولته ، وأنّه الماهر في اجتياز السيول، وإذا تلاعب السيل بسيارته كما يتلاعب الطفل بلعبته خرج صارخًا في الناس "أنقذوني" ولات منقذ ، ورأى الناس حينها بين مولولٍ وباكٍ يعلم نهاية تلك الصورة المؤلمة وهو وأسرته يصارعون الموت الذي يزورهم مليون مرة قبل أن يموتوا ، وأعلم ساعتها أنّ ذلك المغامر قد أحرق الندم قلبه في كل ومضة يرى فيها أسرته وهي تغرغر الماء وتتنفس الموت .

إنّ الدولة الحكيمة - أيّدها الله - لم تألُ جهداً في التوجيه والإرشاد والنصح ، وسنّ القوانين التأديبية لطالبي الشهرة عبر بوابة الموت، ويجب علينا أن نتعاون مع الدولة كلٌ في مجاله ، فالأسرة والمدارس والإعلام والخطباء والعلماء يقع على عاتقهم تربية النشء على ضرورة الالتزام بالقوانين والأنظمة ، كما يجب عليهم أن يبينوا لهم خطورة السيول واجتيازها وقت جريانها، وحكم ذلك في الشرع، ويجب علينا كأفراد أن نتناصح فيما بيننا ، وأن نمسك سفهاءنا ، وأن نستنكر فعلهم ، وأن نُبلِّغ عنهم الجهات المختصة ، فوسائل التواصل تعجّ بأفعال المتباهين الذين لا يأبهون بأنفسهم ولا بغيرهم وهي إدانة لهم باعترافهم بما ارتكبوه .

إننا لا نثرّب على مَنْ داهمتهم السيول رغمًا عنهم فَفَقدناهم ، فهذه أقدار الله جارية على الناس جمعاء، لكننا نلوم مَنْ يذهب إلى السيل طواعية فيموت وكأنه انتحر وإن لم يقصد ، ففعله كفعل مَنْ يرمي نفسه من شاهق ويقول لعلّي أنجو ، فأصبح حديث الناس وهو لا يعلم هل سينجو أم سيموت .

نسأل الله السلامة للجميع ورحم الله مَنْ فقدناهم في السيول، وأصلح الله مَنْ أغواه الشيطان بمخالفة الأنظمة وتحدي قدرة الله …

همسة الختام :
العاقل هو مَنْ يرى مصائب الناس فيتعظ منها، والجاهل مَنْ يجعل نفسه وأهله عظة لغيره …