|

الأبّ .. الظلّ والنور والتضحية الصامتة

الكاتب : الحدث 2025-12-10 10:27:53

بقلم ــ د.محمد بن مرضي

حين يُذكر الحنان، يسبقنا طيف الأمّ، وحين يُذكر الصبر، يقف الأب شامخًا على خط الأفق، لا يشكو، لا يُظهِر، ولكنه يحمل كل شيء.  
الأب ليس مجرد فرد في العائلة، إنه العمود الذي لا يميل، والسند الذي لا يخذِل، والظلّ الذي يرافقنا حتى ونحن لا نراه.
منذ اللّحظة الأولى يكون في الصف الخلفي من المشهد : يعمل بصمت، يكدّ في الظلّ، يتنازل عن رغباته ليمنحنا مستقبلًا أفضل.  
يرتدي ثيابه القديمة ليشتري لعائلته الجديدة، يأكل أقل لنتعلّم أكثر، يُطفئ أحلامه ويؤجلها كي تشتعل أحلامنا.
كل خطوة منّا نحو النجاح كانت فوق تعبٍ لم نراه، وآهات لم نسمعها، وظهرٍ انحنى من أجل أن نعتدل.  
وقد عبّر أمير الشعراء أحمد شوقي عن هذا الفقد العظيم حين رثى والده قائلًا:
سَأَعيشُ بَعدَكَ مُدّةً لاأعرِفُ الغاياتِ مِنها 
وأَظَلُّ أَذكرُ وَجهَكَ الوضّاءَ فِي ظُلْمِ الزمانِ
قصيدة شوقي جاءت منكسرة هادئة، كما هو الأب تمامًا في أغلب المواقف … لا ضجيج ولاصراخ ، لكن الوجع عميق في الفقد، ويقول شوقي أيضاً عندما سُئِل لماذا لم ترثِ أباك قال : قلبي ليس كفئًا لهذه الفاجعة ثم أنشد باكياً يقول :
أنا من مات ومن مات أنا 
لقي الموتُ كِلانا مرتين 
نحن كنّا مهجةً في بدنٍ
ثمّ صرنا مُهجةً في بدنين
يا أبي والموت كأسٌ مرّةٌ
لاتذوق النفس منها مرتين 
يُخطئ من يظن أن الأب لا يحبّ لأنه لا يُعبّر، أو أنه لا يشتاق لأنه لا يُظهر، فالرجل الذي يفتح الباب بصمت عند عودته، هو ذاته الذي كان يحمل همّ البيت كله على أكتافه دون أن يُثقل علينا بشيء.
وفي زمن تتعدد فيه صور البطولات، يبقى الأب هو البطل الأول وإن لم تُكتب له ملحمة، يقول أحد الأدباء وهو يحمل جنازة أبيه في يوم ماطر حتى وهو ميّت كنت أحتمي تحت نعشه عن المطر للمرة الأخيرة، ويقول أيضاً إذا غسّل الأب ابنه فكلاهما سيضحك، ولكن إذا غسّل الابن أبيه فأحدهما سينهار باكياً لأنه اللقاء الأخير.
ولأن تضحيات الأباء لا تُحصى، فإن أبسط ما يمكن أن نفعله هو أن نُقدّرها في حياتهم، لا بعد غيابهم، فالأب لا يطلب شيئًا، لكنه ينتظر نظرة امتنان وكلمة "شكرًا" تروي قلبه الذي جفّ من العطاء الصامت.
وفي الدراسات النفسية يشير الباحثون إلى أن وجود الأب الإيجابي في حياة الأبناء يرتبط بارتفاع مستوى الثقة بالنفس، والتحصيل الأكاديمي، وانخفاض معدلات القلق والاكتئاب،  
إنه ليس فقط حاميًا مادّيًا، بل هو حضور نفسي وأمان داخلي.
ومهما كتبنا، لن نوفيه حقه فهو من علّمنا أن نحبّ بصمت، ونعطي دون شروط، ونقف بثبات حين تهتزّ الأرض، فصوته آمان يحمينا بعد الله  عن أكبر المخاوف.