بحر الكلمات
بقلم - عبدالله عسيري
في عالمٍ تضيق فيه المسافات وتتسارع فيه اللحظات يظلّ للكلمة بحرٌ لا يُقاس عمقه ولا تُحصى أمواجه. بحر الكلمات مساحة شاسعة تمتدُّ بين ما نقول وما نقصد بين الرسالة التي تُنطَق والأثر الذي يبقى في القلب طويلاً بعد الرحيل.
الكلمات ليست مجرد حروفٍ تتجاور إنها سفنٌ صغيرة تحمل مشاعرنا وتطلعاتنا وصدقنا أحياناً وترددنا أحياناً أخرى. قد ترفع أحدهم إلى ضفاف الأمان أو تدفعه دون قصدٍ إلى أعماق لا يعلم حجمها إلا الله. لذلك يبقى الحرف مسؤولية والنطق به فنٌّ لا يُتقِنه إلا من أدرك خطورته.
في بحر الكلمات قد تكون الجملة الواحدة كالمدّ الذي يصلح ما أفسدته الأيام أو كالجزر الذي يسحب منّا أحلاماً تعبنا في بنائها. وهنا تتجلّى حكمة الإنسان: أن يختار كلماته بوعي وأن يدرك أنّ ما يكتبه أو يقوله إنما هو صورة صادقة عنه مهما حاول أن يخفي ما في داخله.
وليس الجمال في الفصاحة وحدها بل في الصدق. فالكلمات الصادقة لها بريق تُرى حتى إن لم تُسمَع وتُشعَر حتى إن لم تُقال بصوتٍ عالٍ، هي التي تُطمئن، وتُعيد ترتيب الفوضى في أعماقنا.
ولأنّ كل قارئٍ يملك مرآته الخاصة فإن بحر الكلمات يتشكّل بشكلٍ مختلف عند كلّ عينٍ تبحر فيه. قد يجد فيه أحدهم الأمل ويجد آخر سراً لم ينتبه إليه من قبل ويأخذ ثالث منه درساً يعينه على المضيّ قُدماً.
وفي نهاية المطاف يبقى هذا البحر مفتوحاً للجميع…
من أراد أن يبحر فيه فليُحسِن القيادة ومن أراد أن يصنع أمواجه فليكن مستعداً لتحمّل نتائجها فالكلمة الواحدة قد تُغيّر حياة بأكملها.
هكذا يظلّ بحر الكلمات عالمًا لا يُحدّه شاطئ ولا يكتمل إلا بقلوبٍ تُحسِن الإصغاء وأفواهٍ تُتقِن القول وعقولٍ تُدرك أن الحرف بداية كلّ شيء.