|

"صمتٌ لا يُقال "

الكاتب : الحدث 2025-11-16 04:08:26

بقلم ـ عبهر نادي

في عالمٍ تتكدّس فيه الماديات وتفرغ فيه القلوب، يراودني سؤالٌ لا يكفّ عن الإلحاح:
هل نحن نعيش فعلًا في زمن الوفرة المادية والندرة العاطفية؟
نشتري الهدايا بلا تردّد، لكننا نتعثّر عند كلمة امتنان بسيطة… نرتّب البيوت بعناية، ونُهمل ترتيب القلوب من حولنا .
وربما إن أمعنّا النظر قليلًا، سنكتشف أنّنا لم نعد نعيش أزمة مال بقدر ما نعيش أزمة شعور. نملك أكثر مما نحتاج، لكنّنا نشعر بأقل مما نستحق.
*فجوةٌ تتسع في الروح كلما غابت كلمة كان يمكن أن تُقال..هو ذا بُخل  المشاعر الذي لا اعتبره صمتاً عابراً !
إنه امتناعٌ عن البوح بما لا يُكلف شيئًا، ولكنه يساوي الكثير: شكرٌ، امتنان، دعوة صادقة، أو حتى نظرة تقدير لا تحتمل التأجيل.
 أشكالًا متعددة من هذا البخل نواجهها ..
هناك أب لا يسمع كلمة “شكرًا” رغم سنوات عطائه، وأم لا يلتفت أحد لحضورها الدافئ المُعتاد، وأصدقاء نأخذهم كأمر مسلّم به فلا نُخبرهم بمدى امتناننا لوجودهم.
بل وحتى بين الأزواج… يشيخ الحب إذا بقي بلا كلمة، ويصبح العطاء واجبًا لكنه خاليًا من الدفء.
ومع مرور العمر، نكتشف حقيقة لم نكن ننتبه لها في شبابنا:
كلما تقدمنا في السن، ازددنا حاجةً إلى تلك  المشاعر  التي تعيد ترتيب قيمتنا في أعين من نحب.
نحتاج إلى الثناء من الأقارب، إلى كلمة امتنان من الأبناء، إلى رسالة عابرة من صديق بعيد تخبرنا أننا ما زلنا في ذاكرته.
نحتاج لمن يذكرنا بأن وجودنا ما زال مهمًا… وأن أثرنا لا يزال ممتدًا… وأن قيمتنا لا تتلاشى بصمت الأيام . فالبشر مهما قست تجاربهم، يلينون أمام كلمة صادقة؛
ومهما تظاهروا بالاكتفاء، فإنهم يشتاقون لمن يقول لهم: أنا أراك… أنا أقدّرك… أنت مهم لي .
إن بخل المشاعر لا يخلق المسافة بيننا وبين الآخرين فقط، بل يخلق المسافة الأكبر داخلنا:
مسافة بين من نحن، ومن كان يمكن أن نكون لو أحطنا أنفسنا بالدفء الكافي.
نحن لا نخسر الناس حين يبتعدون… بل نخسر أجزاء من أرواحنا كانت تنمو بهم.
ولعلّ أعظم مفارقة في هذا العالم أن أكثر الأشياء قدرةً على إحياء القلوب هي تلك التي لا تُكلّف شيئًا: كلمة تُقال في وقتها، أو شعور يُمنح بلا خوف.
إن المشاعر التي نمنعها، لا تختفي… بل تتحول إلى ندوب صامتة في علاقة ما، أو في قلب أحدهم، أو ربما في قلوبنا نحن.
وربما كان سرّ الاتزان الإنساني بسيطًا للغاية:
أن نمنح الآخرين ما نحب أن يُمنح لنا، وأن نتذكّر أن الكلمة اللطيفة لا تنقص منّا، بل تزيدنا.
وفي نهاية المطاف…
نحن لسنا بحاجة إلى مزيد من الممتلكات، بل إلى مزيدٍ من الحضور.
لسنا بحاجة إلى ثراء مادي، بل إلى ثراء عاطفي يرمّم هشاشتنا ويذكّرنا بأننا ما زلنا أحياء.
ولعل السؤال الحقيقي الذي يجب أن نقف أمامه بصدق هو:
إذا كان المال يُنفق ليبقى… فماذا لو أدركنا أن المشاعر تُمنح لتُخلَّد.