|

ما أثقل الفقد حين يكون بلا وداع !

الكاتب : الحدث 2025-10-27 11:02:30

بقلم ــ محمد العتيّق

في دروب الحياة نسير، نحمل بين أيدينا أعمالنا، ونمضي في أيامنا غير شاعرين بما يخبئه الغد لنا. نلهث خلف التفاصيل الصغيرة، نعيش يومنا وكأن الغد مضمون، حتى يأتي ذاك اليوم الذي يهزّ أركان القلب، يوم الفقد، حين يرحل من كان لنا دفء الأيام وسند الخطوات. لحظة الرحيل تلك تُوقف الزمن، وتترك في الصدر فراغًا لا يُملأ، ووجعًا لا يُداوى، كأن النَفَسَ قد اختنق، وكأن الضوء انطفأ في منتصف النهار.

تمرّ الساعات الأولى ثقيلةً كأنها دهور، يختلط فيها الحزن بالدهشة، والدموع بالصمت، نعيش ذهول الفقد كمن يسير في ليلٍ بلا قمر. نستعيد وجوههم في الذاكرة، نسمع ضحكاتهم، نرى أماكنهم، كأن كل شيء من حولنا يهمس بأسمائهم. نتذكر كيف كبرنا معهم، وكيف أحاطونا برعايتهم، وكيف منحونا من الحياة ما كنا نظنه صغيرًا، فإذا هو اليوم أغلى ما فقدناه.

الفقد مؤلم، موجع حتى العظم، خاصة حين يكون الفقيد أحد الوالدين، أو ابنًا، أو أخًا، أو زوجًا. تلك الليلة الأولى بعد الرحيل لا تشبه شيئًا ، هي اختبار صبرٍ واحتسابٍ ووجعٍ دفين. وربما لو سألنا كل من جرّب الفقد لقال إن تلك الليلة كانت الأطول في عمره، لا طعام يمرّ في الحلق، ولا نومٌ يطرق الجفن، فقط صمت ودموع ودعاء متكرر بالرحمة والمغفرة.

ورغم أن القلب يتصدّع، يبقى المؤمن راضيًا بقضاء الله، موقنًا أنها أمانة استُردّت، وأن وعد الله حقّ، وأن رحمة الله أوسع من الحزن نفسه. فكما قال النبي ﷺ حين دمعت عيناه لفقد ابنه إبراهيم: "هي رحمة، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون". هي دموع الرحمة التي فطر الله بها القلوب، لتخفف وطأة الغياب وتُسكّن حرقة الفقد.

أكثر ما يوجع بعد مضيّ الأيام، حين نتذكر أننا لم نعطِ الراحلين ما يستحقون من حضور واهتمام، فنحزن مرتين: مرة على فراقهم، ومرة على تقصيرنا. كم نتمنى لو يعودون لحظة واحدة، فقط لنجلس معهم، لنقول كلمة شكرٍ أو نسمع نصيحةً أخيرة. وحين تعصف بنا الحياة بعدهم، نلجأ إلى ذكراهم كمن يبحث عن الضوء في آخر النفق.

رحم الله من رحلوا عنا وتركوا في قلوبنا فراغًا لا يُملأ، وجعل قبورهم روضةً من رياض الجنة. دعواتي لكل من فقد عزيزًا أن يصبّره الله، ويعوضه بردّ الطمأنينة، وأن يوفّقه لبرّ من رحل بالدعاء والصدقة والعمل الصالح. فما قاله نبينا الكريم يظل عزاء القلوب: "إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وما نقول إلا ما يرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون."