الحفاظ على التراث جسرنا إلى المجد
بقلم : علي الزبيدي
كنت أتحدث ذات غداء مع أبنائي عن العادات والتقاليد وأهمية الحفاظ عليها، فسألني أحد أبنائي عن فائدتها وقال لي ممازحاً جيلنا ( يا بابا ) يختلف عن جيلكم فنحن جيل التقنية واللغة الإنجليزية والذكاء الاصطناعي والخدمة الذاتية! فلماذا تصرّ على أن تحدثنا عن أهمية (صبّ القهوة في ربع الفنجان ) ، وعن ضرورة قول ( النقص في الفنجان وليس في الرجال ) حين تفرغ الدلة من القهوة، وعن (إمساك الدلة باليسار وتقديم الفنجان باليمين)، وعن ( الاجتماع في الأعياد ، والزيارات العائلية الأسبوعية)، وعن ( صندوق الجماعة، والرفد )، وعن ضرورة (تعلّم اللغة العربية تحدثاً وكتابة)، وعن (نصب الخيام وشراء الأضاحي وذبحها وسلخها )، تحدثنا كثيراً وتناقشنا حول هذه المواضيع كثيرًا، لكن هذا السؤال وماتبعه من حوارات حفّزني للحديث عن ضرورة الحفاظ على تراثنا، فالأمم كالأشجار، جذورها راسخة في التاريخ، وساقها شامخة في عنان الحاضر، وأغصانها ممتدة لتظلل آفاق المستقبل، وما هذه الجذور إلا العادات والتقاليد والتاريخ والتراث الذي تتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل، ليظل رباطاً وثيقاً يشدّ بعضها إلى بعض، ومرآة صافية تعكس أمجادها وغابر عزّها، ولنا في تراثنا العربي والإسلامي كنز لا يفنى، ومنهل لا ينضب، فهو سجل تاريخنا الحي، ووعاء لغتنا وقيَمنا، ومرتكز أصالتنا الذي لا تزعزعه عواصف التغريب.
لقد فُطرت الشعوب على حبّ ماضيها والاعتزاز به، فمن ليس له ماضٍ، ليس له حاضر ولا مستقبل، وتلك حقيقة كونية لا يجادل فيها عاقل، فالحفاظ على التراث ليس مجرد رفاهية ثقافية، بل هو ضرورة وجودية للحفاظ على الهوية المميزة التي تجعل الأمة أمةً، وتحفظ لها خصوصيتها بين الأمم، وكما كان الأوائل يشدّدون على أهمية إرثهم، فإننا اليوم أحوج ما نكون للتمسك به، ليس بحرفيته الجامدة، بل بروحه المتجددة، فها هو "إدموند بيرك" ينبه في إحدى مقولاته إلى أهمية ذلك بقوله "لن يتطلع الناس إلى الأجيال القادمة، التي لا تنظر أبدًا إلى الوراء إلى أسلافها"، مؤكداً بذلك على مبدأ ترابط الأجيال الذي لا يتم إلا عبر الجسر المتين للتراث.
وعندما أشرق نور الإسلام، لم يأتِ ليهدم كل ما كان، بل جاء مصدّقاً ومهذّباً ومُتمماً، فلم يهمل العادات الحسنة، بل أقرّها ودعا إليها؛ "فالخير باقٍ في أمتي إلى يوم القيامة". وقد جاء في الحديث الشريف: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فكان الإسلام إعلاءً للقيم الفاضلة وتأصيلاً للعادات الكريمة، بينما نزع شوائب الجاهلية وقضى على العادات السيئة التي تتنافى مع الفطرة السليمة والمصلحة العامة، كالظلم والربا ووأد البنات، وبهذا المنهج الرباني الحكيم، صان الإسلام التراث الإنساني النقي، وصبغه بصبغة العزة والكرامة والارتقاء.
إنّ تراثنا العربي زاخر بالحكمة والأصالة، من مضارب خيامنا إلى قصور مدننا، ومن قصائد شعرائنا إلى مجالس علمائنا، وقد تغنى الشعراء والكتّاب منذ القدم وحتى يومنا هذا بتراثنا العظيم، فهو تحفة فنية تتطلب منا عناية فائقة، ونقلها ليس مجرد رواية حكايات، بل هو تربية للأجيال على مكارم الأخلاق، وتعليمهم لغة الضاد التي هي لغة القرآن، وغرس قيم الكرم والشهامة والمروءة التي ميّزت أجدادنا في نفوسهم، فكيف نرجو للأبناء مستقبلاً مشرقاً إذا كانوا يجهلون لغة آبائهم، أو تناسوا مجالس أجدادهم التي كانت منارات للعلم والأدب؟
إنّ واجبنا اليوم هو أن نكون أمناء على هذا الإرث العظيم، لا أن نجعله مادة للتباهي الأجوف، بل ليكون دافعاً للعطاء والعمل، ومصدر إلهام للإبداع، فليست الأصالة أن نلبس ثوب الماضي فحسب، بل أن نستلهم روح العزة والقوة التي كانت فيه، ونمزجها بوعي الحاضر ومتطلبات المستقبل، لنحافظ على تراثنا من خلال استثماره في بناء مستقبلنا. فلنقرأ تاريخنا بقلب واعٍ، ولنغرس عاداتنا النبيلة في نفوس أبنائنا بلغة محببة وفعاليات جاذبة، حتى يظلّ الرابط متيناً، والسلسلة متصلة، وتبقى أمجادنا حية في صدور الأجيال.
همسة ختام:
التراث ليس حكاية تُروى ثم تُنسى، بل هو روحٌ تسري في دم الأمة، وبوصلة تشير إلى الأصالة وسط زحام الحياة. فكونوا الجسر الذي لا ينقطع، والرابط الذي لا ينحل، بين عِزّ الأمس وأمل الغد، تمسكوا بجميل العادات، ونور القرآن والسنة، واجعلوا من أصالتكم قوةً دافعةً لا قيوداً كابحة، فبذلك نحفظ هويتنا، ونبني مجدنا، ونقدّم للعالم خير ما ورثناه علماً، وخُلُقاً، وحضارة.