فبراير الأسود ..كارثة درامية
د.طلال الحربي
--------------------------------
في عالم الدراما السعودية الذي يتزاحم بين النجاحات اللامعة والتجارب المتنوعة ، يبرز مسلسل “فبراير الأسود” – الذي عرض على منصة “شاهد” في سبتمبر 2025 – كواحدة من أكثر الأعمال عبثية وغير مبررة. بطولة ناصر القصبي، النجم الذي بنى إمبراطورية كوميدية على أكتاف أعمال مثل “طاش ما طاش” و”العاصوف”، يعود هنا ليغرق في بحر من الفراغ الإبداعي، محولاً قصة انهيار سوق الأسهم السعودي بين 2004 و2006 إلى مزيج بائس من الكوميديا السوداء الفاشلة والسخرية الرخيصة. هذا المسلسل ليس مجرد عمل ضعيف؛ إنه نقطة سوداء دامية في مسيرة القصبي، تلطخ تراثه ببقعة من الإساءة الاجتماعية والتسطيح الثقافي الذي يُشبه محاولة طفل لرسم لوحة بألوان مائية مذابة.
دعونا نبدأ بالأساسيات: القصة تدور حول “سعود” (القصبي)، الرجل الذي يخرج من السجن بعد اتهامه بالنصب، ليعود إلى عالم الخداع عبر سوق الأسهم، يبني ثروة وهمية تتصاعد حتى يضربها الانهيار الاقتصادي كالصاعقة. فكرة تبدو واعدة على الورق – تاريخ حقيقي مليء بالدروس عن الطمع والانهيار الجماعي – لكن التنفيذ يحولها إلى كومة من الهراء غير المتماسك. لا توجد هنا أي مقومات للنجاح: لا حوارات حادة، لا شخصيات عميقة، ولا حتى كوميديا ذكية تستحق الضحكة الخافتة. الكاتب ناصر العزاز والمخرج عمرو صلاح يبدوان كأنهما يحاولان إعادة ابتكار عجلة الدراما السعودية بأدوات صدئة، حيث تتدفق الحلقات العشر (القصيرة نسبيًا) كسيل من المشاهد المتكررة: نصب، ضحك مصطنع، وانهيار متوقع يُقدم كأنه كشف كوني.
ما يجعل “فبراير الأسود” أسوأ من مجرد فشل فني هو فراغه التام من أي قيمة إبداعية. القصبي، الذي عودنا على تجسيده لشخصيات معقدة تجمع بين السخرية والنقد الاجتماعي الذكي، يتجول هنا كدمية خشبية تتحرك بأوامر سيناريو فارغ. لا يوجد تطور درامي حقيقي؛ الثراء السريع يُصور كلعبة أطفال، والانهيار كمزحة سيئة لا تُثير إلا الشفقة. أين اللمسة الإنسانية؟ أين التعاطف مع الضحايا الحقيقيين لهذه الأزمة الاقتصادية التي دمرت آلاف العائلات السعودية؟ بدلاً من ذلك، نُقابل بمونولوجات كوميدية سطحية تُشبه نكات الحفلات الاجتماعية الفاشلة، حيث يحاول القصبي إنقاذ العمل بموهبته، لكنه يغرق في بحر من السيناريو الضعيف الذي يجعله يبدو ككاريكاتير لنفسه.
ولكن الجريمة الحقيقية تكمن في الإساءات الاجتماعية التي يرتكبها المسلسل بكل وقاحة. “فبراير الأسود” لا ينتقد الطمع فحسب؛ إنه يُسطّح المجتمع السعودي كله إلى مستوى كاريكاتيري مهين. الشخصيات الثانوية – من الأم (سناء بكر يونس) إلى الوسطاء الاقتصاديين الجشعين – تُقدَّم كأفراد غبيين يستحقون مصيرهم، مما يُوحي بأن الانهيار الاقتصادي لم يكن درسًا جماعيًا بل عقابًا لجهل الكثيرين. هذا التسطيح ليس مجرد خطأ فني؛ إنه إساءة مباشرة للذكريات الجماعية، حيث يُحوَّل تاريخ مؤلم إلى مهرجان من السخرية الرخيصة دون أي احترام للآثار النفسية والاجتماعية. المجتمع السعودي، الذي يُفترض أن يكون محور النقد الكوميدي، يُصوَّر هنا كانّه يُقاد إلى الذبح بأيدي “ذكاء” الشخصية الرئيسية، مما يُثير الاشمئزاز أكثر من الضحك.
وإذا كان ذلك غير كافٍ، فإن التهكم الواضح على منسوبي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُكمل الصورة الكارثية. في مشاهد متفرقة، يُلمح المسلسل إلى عناصر الهيئة كعناصر رجعية تُعيق “الحرية الاقتصادية”، مستخدمًا نكات ساذجة تُشبه تلك التي أثارت الجدل في أعمال سابقة للقصبي مثل “مخرج 7”. هذا التهكم ليس نقدًا بنّاءً؛ إنه هجوم شخصي يُهين دور الهيئة التاريخي في الحفاظ على القيم الاجتماعية، مُقدِّمَ إيَّاها ككوميديا سوداء تُشبه الديناصورات في عصر الرأسمالية الجامحة. في زمن يسعى فيه المجتمع السعودي للتوفيق بين التراث والحداثة، يأتي “فبراير الأسود” ليُشعل فتيل الاستياء، محوِّلًا نقاشًا حساسًا إلى مادة للضحك الزائف. هل هذا فن؟ أم مجرد محاولة لجذب الانتباه عبر إثارة الغضب؟
في النهاية، “فبراير الأسود” ليس مجرد مسلسل فاشل؛ إنه وصمة عار في سيرة ناصر القصبي، الذي يُفترض أن يكون أيقونة الكوميديا السعودية. بعد سنوات من الأعمال التي جمعت بين الترفيه والنقد الاجتماعي، يعود القصبي هنا بقطعة تُشبه الخنجر في الظهر: فراغ إبداعي يُغرق الجمهور في بحر من الإحباط، وإساءات تُسطِّح الواقع إلى مستوى المهزلة. إذا كان فبراير أسودًا في تاريخ السوق المالي، فإن هذا المسلسل هو فبراير أسود في تاريخ الدراما السعودية. نصيحتي للقصبي: ابتعد عن مثل هذه المغامرات، وعد إلى جذورك، قبل أن يتحول الجمهور من معجبين إلى مراقبين ينتظرون السقوط التالي .