زحمة الرياض بين الدراسة ومشاريع التطوير و التنمية ..
أ. د. محمد مباركي
بين دراسة التأثير المروري ومشاريع التطوير والتنمية ، تعيش العاصمة الرياض مرحلة غير مسبوقة من النمو والازدهار تشمل جميع جوانب الحياة العصرية، بفضل المشاريع التطويرية والاستثمارية الضخمة التي أطلقتها الدولة – أعزها الله – لتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030. وتشمل هذه النهضة تطوير البنية التحتية من جامعات ومدن طبية ومستشفيات ومرافق حكومية ووزارية، إلى جانب مرافق القطاع الخاص، والحراك التجاري العالمي، والدور السياسي والاقتصادي والعلمي الكبير الذي جعل من الرياض وجهةً رئيسة لاستضافة المؤتمرات والمنتديات والمعارض المحلية والإقليمية والدولية.
إلا أن هذا الازدهار المتسارع صاحبه ازدحام مروري متزايد على شبكة طرق المدينة، مما أثّر سلبًا على حياة السكان ومستخدمي الطرق في جوانبهم الوظيفية والاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى النفسية والصحية في بعض الحالات.
وبصفتي مختصًا ومهتمًا بهندسة النقل، أؤمن أن الدراسات المرورية تمثل المنهج العلمي الأمثل لفهم خصائص الحركة المرورية وتشخيص أسباب الازدحام والاختناقات، ووضع الحلول المناسبة بناءً على بيانات دقيقة تُجمع حول حجم المرور وكثافته، وأنواع المركبات، وسرعاتها، ودورات الإشارات الضوئية، ومستوى الخدمة على الطرق. كما تساعد هذه الدراسات أمانة المدينة في تصميم وتخطيط الطرق والتقاطعات، وتشغيل الإشارات، وتنظيم مواقف السيارات، ودراسة النقل العام لتقدير أعداد الرحلات المستقبلية، وبالتالي صياغة تصور شامل للحجم المروري الحالي والمستقبلي.
ورغم أن الرياض تمتلك شبكة طرق متقدمة ومصممة بشكل متميز، إلا أن الزيادة الكبيرة في عدد المركبات الناتجة عن التوسع العمراني والمشاريع الاستثمارية والتنموية، إضافة إلى الحراك السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، أثّرت على كفاءة الشبكة التشغيلية وأدت إلى ازدحامات مرورية متكررة على مدار اليوم. وهنا تبرز أهمية دراسات التأثير المروري (Traffic Impact Studies) وتحليلها.
إن فهم ماهية هذه الدراسات وأهميتها يُعد أمراً حيوياً لتقييم التأثيرات المحتملة للمشاريع التطويرية على شبكة الطرق والبنية التحتية في المدينة. وفي رأيي، فإن غياب هذه الدراسات والتحليلات في بعض المشاريع هو أحد الأسباب الجوهرية للاختناقات المرورية التي تشهدها الرياض اليوم.
عادةً ما تُجرى دراسات التأثير المروري بواسطة مهندسين مختصين مؤهلين ومعتمدين في هندسة المرور (PTOE)، يقومون بتقييم دقيق لتأثير المشاريع الجديدة على الحركة المرورية الحالية. ويتعاون هؤلاء الخبراء مع الجهات المعنية مثل الأمانات والهيئة الملكية لمدينة الرياض، لتقدير حجم الزيادات المرورية المتوقعة، وتحديد المشكلات المحتملة، واقتراح حلول هندسية وتنظيمية لتخفيف الآثار السلبية.
تشمل الدراسات عادةً تقييم جوانب مثل:
• سعة الطرق وكفاءتها التشغيلية.
• أداء التقاطعات ودورات الإشارات.
• سلامة المشاة.
• احتياجات مواقف السيارات.
• التأثيرات البيئية.
• أثر المشروع على الجهات ذات العلاقة (أصحاب المصلحة).
ومن خلال هذه الدراسات، يمكن للمطورين والجهات الحكومية ضمان أن مشاريعهم تلبي متطلبات السلامة والكفاءة المرورية، وتتماشى مع الأنظمة واللوائح المعمول بها. كما تتيح للأمانة تقدير التأثيرات المستقبلية وتخطيط البنية التحتية بفاعلية أكبر.
وغالبًا ما تشترط أمانة الرياض إجراء دراسة تأثير مروري إذا كان المشروع الجديد سيُحدث زيادة تُقدّر بـ100 رحلة مرورية أو أكثر في ساعة الذروة. ويتم تحديد ذلك بالاعتماد على أدلة ومعايير علمية دقيقة تُقدر عدد الرحلات المتوقعة لمختلف أنواع استخدامات الأراضي. وبناءً على النتائج، تُقترح حلول تطويرية لتحسين كفاءة الشبكة ورفع مستوى الخدمة.
بوجه عام، تُعد دراسات التأثير المروري ركيزة أساسية لضمان تخطيط وتطوير المشاريع الجديدة بشكل مستدام، بما يقلل من آثارها على الطرق القائمة، ويُعزز سلامة وكفاءة التنقل في المدينة. كما تُزوّد هذه الدراسات الجهات المعنية ببيانات ومؤشرات حيوية تساعد في رسم الخطط والسياسات المرورية المستقبلية، ورفع مستوى الأداء والسلامة على شبكة الطرق.
وفي الختام، يمكن القول إن تفعيل وتعميم دراسات وتحليلات التأثير المروري في مدينة كبيرة مثل الرياض من شأنه أن يثمر توصيات عملية تسهم في تحسين انسيابية الحركة، ومن أبرز الحلول المقترحة:
• تعزيز النقل العام عبر نظام تكاملي متعدد الوسائل يغطي المدينة بأكملها، على غرار مدن عالمية مثل لندن.
• تمكين الهيئة الملكية لمدينة الرياض من إدارة وتشغيل إشارات المرور بكاملها، ودراسة إمكانية استبدال بعضها بتصاميم هندسية بديلة.
• تنفيذ تعديلات هندسية على المحاور الرئيسة عند الحاجة.
• توحيد اتجاهات السير في بعض الطرق المختارة لتحسين التدفق المروري.
ولا يفوتنا الإشادة بالجهود الكبيرة التي تبذلها الهيئة الملكية لمدينة الرياض بقيادة سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله –، في تطوير العاصمة وإدارة مشاريعها الكبرى وفق منهج تكاملي حديث، ومن أبرزها مشروع مترو الرياض الذي يُعد خطوة محورية لمعالجة الازدحام المروري ورفع جودة الحياة .
*(أكاديمي وكاتب)