|

الحداثة بين التلقي والنقد .. إشكالية فكرية متجددة

الكاتب : الحدث 2025-09-30 04:27:31

بقلم : البروفيسور ـ تركي بن عبيد *
------------------------------------


منذ مطلع القرن العشرين، ظلت الحداثة واحدة من أكثر القضايا الفكرية إثارة للنقاش في الساحة الثقافية العربية. فهي ليست مجرد نمط حياة أو تقنيات مستوردة من الغرب، بل مشروع متكامل يعيد صياغة علاقة الإنسان بالعالم، وبالمعرفة، وبقيم الحرية والعقلانية. غير أن التفاعل مع هذا المشروع اتخذ في عالمنا العربي مسارات متباينة، بين من رأى فيه شرطاً ضرورياً للنهوض، ومن اعتبره تهديداً لهويتنا الأصيلة.

الحداثة في أصلها تقوم على إعادة الاعتبار للعقل، وإعلاء شأن الفرد، وتأسيس المجتمع على مبادئ الحرية والعدالة والمساواة. وقد أثمرت في السياق الغربي تحولات سياسية وعلمية وثقافية كبرى. لكن حين انتقلت إلينا عبر الاحتكاك بالغرب، اصطدمت بأسئلة محلية مرتبطة بالهوية، والدين، والتراث، وهو ما جعلها تُستقبل بقدر كبير من الحذر والارتياب.
التحدي الأبرز يكمن في أن كثيراً من النقاشات حول الحداثة انحصر بين ثنائية الإقصاء أو الاستسلام: فإما رفضها بدعوى أنها دخيلة على ثقافتنا، أو تبنيها بشكل أعمى دون تكييف مع واقعنا. وفي الحالتين، تظل الإشكالية قائمة، لأن الحداثة ليست وصفة جاهزة، بل منظومة قابلة للتأويل والتطوير.
المطلوب إذن هو تفكيك الحداثة وإعادة قراءتها في ضوء احتياجاتنا وتحدياتنا، لا باعتبارها نقيضاً للتراث، بل فرصة لإعادة فهمه وتجديده. فالمجتمعات الحية لا تنغلق على ماضيها، ولا تذوب في غيرها، بل تصوغ حداثتها الخاصة التي تنبع من سياقاتها الثقافية والتاريخية.

إن معركة الحداثة في العالم العربي لم تُحسم بعد، وربما لن تُحسم قريباً، لأنها تعكس صراعاً أعمق حول طبيعة علاقتنا بالزمن: هل نحن أسرى للماضي، أم شركاء في صناعة المستقبل؟ والجواب لن يكون باستيراد مفاهيم جاهزة، بل بامتلاك شجاعة النقد، وقدرة الإبداع، وإرادة التحرر من التبعية الفكرية. فالحداثة الحقيقية ليست أن نكون نسخة من الآخرين، بل أن نجرؤ على ابتكار حداثتنا الخاصة.
*باحث بقضايا مكافحة الإرهاب والتطرف 
@Prof_TURKIOBAID