|

مات أحمد.. دون زوجة وبلا ولد جزء 3

الكاتب : الحدث 2021-07-10 06:28:37

بقلم ✍🏻/سالم جيلان

حولنا أقارب وأصدقاء ورفاق وجيران يعيشون بيننا لعقود طويلة من الزمن نقترب من بعضهم وننأى عن البعض الآخر تِبعًا لظروف الحياة وتقلبات الأزمنة وحيلولة التقارب كيفما كانت وتكون أسبابها... يموت أحدهم فنكتشف أمورًا لم نكن نعلمها حينما كان ذاك الإنسان حيًا أو نستدرك شيئًا من أمنياته ومتطلبات حياته التي لم يستطع إدراكها وفات علينا أجر السعي في تحقيقها أو خير المبادرة لقضائها...  *"أحمد"*  رحمه الله تعالى واحد من هؤلاء الذين عاشوا بصمت دون ضجيج وغادر الدنيا بهدوء تاركًا أثرًا محدودًا بين المحيطين به في الفترات الأخيرة من سنين حياته وبالغ الحزن لدى شقيقتيه.

هذا الجزء من قصته خصصته للفصل الأخير من فصول حياته ووفاته... لم يتزوج *أحمد* طوال حياته وقد استفسرت عن السبب كما ذكرت لكم ذلك في الجزء الأول غير أنه لم يهتم باستفساراتي إذ كنت وقتها صغير السن فلم يكترث رحمه الله بأسئلتي لكنني عندما كبرت وتزوجت لم ينقطع تواصلي معه فكنت ألتقيه ويُطلعني على أحواله كلما التقينا وجلسنا لأنني أسكن في منزلي الجديد وهو بجوار منزل والدي رحمه الله.. من المميزات في حياته رحمه الله ذاك اللقب الذي اشتُهر به وأصبح الاسم الدارج والمتعارف عليه بين الكبار والصغار داخل وخارج الحي حتى والديه رحمهما الله وكافة أهله وأقاربه ينادونه به وهو لقب *"العمدة"*  وعلى حد علمي بأن خاله رحمه الله هو من أطلق عليه هذا اللقب وصار مُلازمًا له حتى مات... نعود لقصة الزواج والتي أجابني على السر الدفين فيها حيث اعترف لي بأنه عندما كان شابًا يافعًا ويملك المال الوفير طلب من والده رحمه الله أن يخطب له فتاةً بعينها من أحد الأحياء المجاورة فرفض والده ذلك الأمر قطعيًا دون إبداء سبب للرفض وأغلق جميع الطرق لإقناعه وطلب منه تحديد أيَّ بيتٍ آخر أو فتاةٍ أخرى وسوف يقوم بتزويجه على الفور غير أن *"أحمد"*  اتخذ موقفًا عكسيًا وصرف النظر نهائيًا عن موضوع الزواج وعاش حياته منطويًا على نفسه كما ذكرت لكم في بداية القصة حيث مارس حياته كالعازب وهو وسط أهله وفي بيت والده... أذهلني بهذه القصة وأدهشني استسلامه واستغربت ردة فعله وأنكرت عليه حينها يأسه وعدم قبول رغبة والده رحمه الله وسألته كيف لم يحاول مرارًا إقناع والده أو الاستعانة بمن يُقنعه فأخبرني بأن تلك الفتاة تزوجت وهو يرى ويسمع فازدادت حالته النفسية قهرًا وغبنًا وقرر مواصلة حياته دون زوجة.... مضت السنوات وتجاوز رحمه الله الثلاثين من عمره واستقبل الأربعين ثم بلغ الخمسين وهو يمضي في حياته تلك حتى لامس خط الفقر وأضحى يعيش الفقر والبطالة فلم يعد يقوى على ممارسة أعمال البناء وصيانة الدراجات النارية "الدبابات" كما تسمى في صبيا... بعد وفاة والده ثم أعقبته بسنوات والدته ازدادت انطوائيته مع تقدمه في السن ولازم بيته حتى تحسنت الأوضاع واستطاعت أخته التي تعيش في جدة وزوجها المساهمة في إعادة تحسين أوضاعه وبدأ يعود بالتدريج لممارسة حياته الطبيعية... هنا وبعد عدة جلسات لمست في بعض الأوقات وجود رغبة منه في الزواج ولكنه لا يملك من حطام الدنيا شيء فطرحت عليه فكرة بهذا الصدد وهي أن أتبنى بنفسي مشروع زواجه وهو في هذا السن بمناشدة الأقارب والأصدقاء والجيران الوقوف معه لإتمام هذا الأمر على أن تكون المرأة المستهدفة قريبة من عمره وترعاه بقية عمره وإن أراد الله له الذرية منها فذلك خيرٌ على خير فوافق على فكرتي واستحسنها بل وأسعدته؛ إلا أن من جماعته من عارض الفكرة بل ووقفوا سدًا منيعًا لمنعها بحجة تقدمه في العمر وعدم مقدرته على العمل وتلبية احتياجات أسرة أو حمل هم زوجة في هذا الوقت الصعب وبعد ضغوط قوية تم إغلاق الموضوع بشكل نهائي واستسلم *أحمد* للواقع....... وعاش بعد ذلك فترة زمنية هي الأروع في حياته إذ رافق جاريه أبا سامي وأبا عبدالعزيز فالأول جاء من غرب الحي واشترى منزلًا مجاورًا *لأحمد* وكان على وشك التقاعد ثم تقاعد وهما صديقان والآخر تقاعد بعد إصابته في الحد الجنوبي واقتربا منه أكثر ورافقهما في الحي بشكلٍ عام وفي مسجد الحي الصغير بصفةٍ خاصة ومن ملازمته لهذا المسجد استلم من جماعة المسجد مفتاحه وصار المؤذن فيه لكل الفروض وشاءت إرادة الله أن يقترب *"العمدة"*  من أهل الحي أكثر فأكثر خلال السنوات الأخيرة من عمره ويجتمع بهم باستمرار في أطهر مكان... لم تقتصر علاقته في الحي على الثنائي "نافع وحمد" بل امتدت لبقية رفاقهما في جلسة الديوانية بجوار منزل " *أحمد العمدة"* غير أن علاقته بنافع كانت تختلف عن البقية فهو الجليس الدائم له والأكثر تواصلًا معه وخاصةً بعد تقاعد أبو سامي.... استمرت هذه الفترة الذهبية في حياة _أحمد_ وشاءت الأقدار أن يتعرض بطل قصتنا لمشكلة جديدة عند تحديث بياناته أيام جائحة كورونا لتفعيل البصمة وتطبيق توكلنا وحدث معه مالم يكن في الحسبان بسبب خطأ في بياناته وانتظر مدة بينما زوج أخته يسعى ويبحث عن حل بين جدة ورابغ وجازان وفي تلك الأثناء تفاجأ بأحد أبناء عمومته المقربين يقومُ بعملٍ مفاجىء على حين غرة صادر به كل الجهود المبذولة لتعديل وضعه واصطحبه معه بعد إيقاظه من نومه وهو آمن في مسكنه بصبيا ووعده بالعودة آخر النهار لكنّ أمرًا ما قد حدث وغاب *أحمد* وانقطعت أخباره وبعد مدة اكتشف أهله أنه عاد إلى اليمن من جديد وهو مكسور الخاطر من ذاك القريب الذي جعل منه كبش فداء من جديد دون أن يشعر لأنه لا  يقرأ ولا يكتب وتقدم في العمر.... وتكالبت عليه آلام الجسد وقهر الأقارب من كل جانب فبينما بعضهم يساعده ويعمل مايستطيع لأجله يباغته آخر بطعنة لا تلتئم جرحها غائر وأمضى - رحمه الله - قرابة ستة أشهر يعاني المرض والقهر وشقيقته وابن شقيقته وبعض المقربين يحاولون إعادته لمسقط رأسه وبيت والده رحمه الله في صبيا وكان طوال تلك الفترة يتواصل مع *نافع* الصديق المقرب منه ويحكي له بعض معاناته وشوقه لأخته التي أنهك جسدها المرض وكبرت في السن وهي تنتظر عودته ويتحدث له عن تضحيات شقيقته الأخرى في مدينة جدة التي تبذل كل ماتستطيع وتسعى بمساعدة زوجها وابنتها أملًا في عودته وبالفعل عاد *أحمد* لكنها عودة أليمة وغير متوقعة وجاءت متأخرة ممزوجة بمعاناة الرمق الأخير فقد وهن عظمه وازداد عجزه وتمكن منه المرض مع كبر سنه وتوسع همه وتكبد المظالم ممن ظن بهم الخير... هل تعلمون أو تتوقعون ماذا حدث *لأحمد* في طريق عودته وهو بهذه الحالة ؟!!! بينما كان ابن أخته يترقب عودته في مواقف سيارات الأجرة ويتواصل معه بالجوال لإسعاد خالتيه في صبيا وجدة إلا أن تلك السعادة لم تكتمل وفرحته لم تتم.... إذ فقد الاتصال بخاله واكتشف فقد خاله بعد حين وظل يبحث عنه ويكرر محاولات الاتصال بجواله ثم اتجه للشرطة والمستشفيات والمستوصفات بحثًا عنه دون جدوى ومضى ذلك اليوم وتبعته عدة أيام *وأحمد* لا  أثر له حتى صديقه *نافع* فقد التواصل معه منذ تلك اللحظة وهو يتهلف منتظرًا عودته للحارة والمسجد.... وبين التخمينات المختلفة ومع التوقعات المتفاوتة وتزايد التساؤلات وهل؟ تتبعها هل؟!!! تفاجأ ابن أخته بإنسانٍ عظيم يتصل به حيث كان قد عرفه قبل فترة زمنية قصيرة وهو مواطن في العقد الثالث من عمره فأخبره بأنه وجد خاله *أحمد* وأنه الآن بحالة صحية سيئة وقال له أتمنى أن تقابلني في صبيا لتقوم بإسعافه ومعالجته.. فرح _محمد_ بهذا الاتصال وبعيدًا عن فحواه وكون خاله مريض ويحتاج إسعاف فالمهم الآن أنه وجده بعد البحث الطويل والمعاناة الكبيرة وانطلق للمكان المحدد ووجد خاله *أحمد* في وضعٍ صحيٍ سيءٍ للغاية فأخذه بسيارته وشكر ذلك الرجل الفاضل جزيل الشكر على ماقام به اتجاه خاله المفقود منذ مدة.... اتجه بعد ذلك بخاله إلى المستشفى وتلقى العلاج الإسعافي اللازم ثم ذهب به للحلاق وبعد ذلك عاد به لبيته ليجد شقيقته المكلومة حزنًا على فراقه بانتظاره بلهفة وشوق لمن بقي لها في هذه الحياة.... استأنست الأخت بعودة أخيها وأعددت له لذيذ الطعام وهيأت له فراش المنام فهما باتا وحيدين في الزمان والمكان بعد وفاة الوالدين والأخت الكبيرة وفوات قطار الزواج عليهما.

نافع وحمد وعلي وسعيد وخالد وعبودي وحمودي وبقية أهل الحي وجماعة المسجد تناقلوا الخبر السعيد بعودة *"العمدة"*  وانتظروا لقاءه وسماع الأذان بصوته لكنه لم يفعل فتهافت بعضهم لزيارته والسؤال عنه فوجدوه طريح الفراش ومع ذلك قام من فراشه سعيدًا بلقائهم من جديد وخرج لقارعة الطريق لبعض الوقت ليشاهد الحي والناس كما اعتاد ذلك في الأيام الخوالي وشاهده البعض الآخر وبادلوه التحية وحمدوا الله على سلامته وعودته لأهله وبيته وحارته من جديد وانقضى يومه الأول بعد العودة وتوافد بعض أقاربه ومعارفه في اليوم الثاني لزيارته والاطمئنان عليه وكان يوم خميس وفي اليوم الثالث لعودته وهو يوم الجمعة ظهر *أحمد العمدة* بصورة مختلفة لم يعتدها أهله فمنذ وصوله وهو شخص مختلف عما كان عليه قبل غيابه وحالته ليست طبيعية وجسمه نحيل ومثير للقلق ثم شعر قبل صلاة الجمعة بضيقٍ في التنفس بصورة متقطعة وامتنع عن تناول الطعام وظل طوال الوقت مُمدًا على السرير وأخته وابن أخته يتفقدان حالته ويحاولان إطعامه لكنه يرفض واتصلا بشقيقي الأكبر لكي يأتي ويحاول معه بأي طريقة لإقناعه بتناول الطعام أو إعادته للمستشفى كما فعل معه في الليلة الماضية وجاء أحمد *لأحمد* فلم يلحق منه غير جسده الذي التصق بفراشه ووجد عيناه شاخصتان لبارئها وقد فارق الحياة الدنيا إلى جوار ربه... مات *أحمد* نعم مات دون زوجة وبلا ولد.

القصة ليست من نسج الخيال إنما هي واقعية بكافة تفاصيلها لإنسان عاش الحرمان وظلم الإنسان للإنسان ومن أقرب الناس إليه... في نهاية المطاف غادر بطل قصتنا الحياة الدنيا إلى دار القرار وله مظالم لدى أحياء سيلقاهم بين يدي رب العالمين.