لا قنوط من رحمة الله ..
بقلم : عثمان الأهدل …
قيل في الأثر "لا تكره شيئًا اختاره الله لك فعلى البلاء تُؤجر، وعلى المرض تُؤجر، وعلى الفقد تُؤجر وعلى الصبر تُؤجر، فلا تحزن فرب الخير لا يأتي إلّا بالخير فقل دائمًا الحمد لله". فقد وعدنا الله بالجنة حتى الشوكة التي يشاكها العبد جعل فيها محو للذنوب، مع أن الفتن أصبحت تغزونا عبر النوافذ والأبواب ووسائل الاتصالات المتنوعة، إذ قال سيد الأنام ﷺ :{يأتي زمان على أمتي القابض على دينه كالقابض على جمرة من النار}. ولعمري أن الزمان الذي قصده بأبي وأمي هو ﷺ، هو زماننا إن لم أكن مخطئاً،
ومع ذلك لم يتركنا رب العباد ضحية لهذا الزمان، فقد جعل موارد الأجر أكثر من موارد الإثم، فرحمة الله تأبى إلّا أن تجد لنا مخرجًا يُقينا من عذاب النار ويرزقنا نعيم الجنة، فهو أرحم بنا من أرحام أمهاتنا، بل أن من رحمته سبحانه يُؤجرنا على إطعام أهالينا وكسوتهم، بل حتى كل ماليس له صلة بالعبادة في حياتنا يجعله في موازين حسناتنا لو احتسبناه لله، قيلَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ذهَبَ أهلُ الأموالِ بالأجْرِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ فيكَ صَدَقةً كَثيرةً، فذكَرَ فَضلَ سَمعِكَ، وفَضلَ بَصرِكَ، قال: وفي مُباضَعَتِكَ أهلَكَ صَدَقةٌ، فقال أبو ذَرٍّ: أيُؤجَرُ أحَدُنا في شَهوتِه؟ قال: أرَأيْتَ لو وضَعْتَه في غيرِ حِلٍّ أكان عليكَ وِزرٌ؟ قال: نَعَمْ، قال: أفتَحتَسِبونَ بالشَرِّ، ولا تَحتَسِبونَ بالخَيرِ.
وقال ابن القيِّم رحمه الله: "كلما كان العبد حَسن الظَّن بالله، حَسن الرَّجاء له، صادق التوكُّل عليه: فإنَّ الله لا يخيِّب أمله فيه البتَّة؛ فإنَّه سبحانه لا يخيِّب أمل آملٍ، ولا يضيِّع عمل عامل".. فالله غفورٌ رحيم، كتب على نفسه الرحمة؛ {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۖ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام ٥٤]. حتى في عصيان العبد وتوبته أجرًا، توبة العبد بعد العصيان حتى وإن عاد ثم تاب أكثر من مرة يبدل الله ذنوبه إلى حسنات على أن تكون توبته في كل مرةٍ صادقة، فقد قيل للحسن البصري : "ألا يستحيى أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود، ثم يستغفر ثم يعود؟ فقال البصري : ود الشيطانُ لو ظفر منكم بهذا، فلا تملُّوا من الاستغفار". والاستغفار كلمة لا تكلف سوى تحريك اللسان، ولكنها عظيمة عند الله {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}،[الانفال ٣٣]. فجعل الله الاستغفار حرزًا من عذابه جل جلاله في الدنيا.
بل أن الله جعل الاستغفار مفتاح الرزق ؛{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: ١٠- ١٢]. جعل سبحانه عوائد الاستغفار عظيمة وبأقل الأعمال وأسهل السُبل، يرزقنا مالا يستطيع أن يمنحنا إياها إنسٌ ولا جان، فخزائنه سبحانه لا تنفد {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ ۖ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام ٩٦].
بل أن ذِكرُ الله آناء الليل والنهار والحديث إليه أثناء الخلوات هو أجرٌ وحرزٌ عظيمُ، فأي دينٌ هذا، يريدنا أن ندخل الجنة رغمًا عن أنوفنا حتى ولو بالقليل. نعم قالها المولى في محكم آياته؛{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ }[ النساء ٤٨]. بل أن إعانة الناس وقضاء حوائجهم، صدقة لله تُشفي مريضًا وتفك أسيرًا وترزق فقيرًا من حيث لا يحتسب، عدا احتساب آثارها الخفية والظاهرة في الدنيا قبل الآخرة، وقد سمعنا قصصًا كثيرة عن الصدقة وأثارها العظيمة، والمولى عزوجل ذكر في محكم آياته أن الميت يدعو ربه أن يعيدهُ للحياة ليصّدق عندما يرى ثواب أجرها؛ {وَأَنفِقُوا ممَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ}[المنافقون ١٠].
وقد روي عن رسول الله ﷺ أنه قال :{إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ}.. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وليس كلٌ منا يُرزق بالولد حتى يدعو له أو مال، ولا كل منا يستطيع أن يقدم علمًا ينتفع به، ولكن عوضًا عن ذلك يستطيع أن يكفل يتيمًا واحدًا على أقل تقدير فيكون صدقة جارية وولدٌ يدعو له، فكفالة اليتيم عظّم سيد الأنام ﷺ شأنها، إذّ قال: {أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة}، وأشار بالسبابة والوسطى. وتأتي عظمتها من حركات وسكنات هذا اليتم بعد أن يغدو رجلًا، فيُؤجر به من كفلهُ وصرف على تعليمه، بل أن الأجر يمتد إلى ذريته والأجيال التي علّمها إن كان معلمًا وهكذا جيل بعد جيل تتعاظم ويعود أجرها جميعًا على كافل اليتيم، تنتظره يوم الميعاد كالجبل الأشم لتثقل موازين حسناته.
ولا أقل شأنا من كفالة اليتيم، غير تربية البنات فهن المدرسة التي تُنشئ فيها لبنة الأمة وسؤددها، إذّ قال سيد الأنام ﷺ :{من كان له ابنتان فأحسن إليهما كنّ له سترًا من النار}، وتأتي خيرة ذلك في قول حافظ إبراهيم؛ "الأم مدرسة إن أعددتها، أعددت شعبًا طيب الأعراق". وتربية البنات على المبادىء يجعلهن تربة صالحة لنشأة أجيال محصّنة تدافع عن ثغور الأمة وتعمل على حمايتها، ويجب على كل من رزقه الله البنات أن يحمده أن ضمن له الجنة. ولهذا آمل من قرائي الأعزاء أن ينفضوا من على رؤسهم غبار اليأس ولباس الحزن ولا يفكروا غير في زرع الخير ليحصدوا خراجه في الآخرة.