|

الدين بين النهج الرباني والنهج البشري.

الكاتب : الحدث 2023-08-19 08:07:18

 

بقلم : عثمان الأهدل …

قال أمير المؤمنين الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه: "لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم" - وفي نفس السياق قال الله تعالى :{لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}، وذكر الألباني رحمه الله؛ "أن المطهرون قصد بها المولى الملائكة وليس البشر، فالبشر متطهرون"، والمس هنا هو الاحساس، ولكن اختلف بعض العلماء في تفسير هذه الآية و قصروها على طهارة البدن، وعز الألباني هذا الاختلاف إلى عجزهم في فهم لغة القرآن كما ينبغي. و نتيجة لاجتهاد بعض المحسوبين على علوم الدين نشأت لنا أفكار متطرفة علقت بعقيدتنا، خلطوها والتبست على من جاء من الأجيال من بعدهم، فمثلًا فهموا الجهاد والقتال في سبيل الله أو افهموهم اياه من يريدون تشويه الدين هو التنمر على من يخالفنا في العقيدة، ولم يفهموا أن  فتوحات الرسول والصحابة في الأساس كانت ضد السلاطين الذين كانوا يستعبدون شعوبهم وينكلون بهم.

وثمة بعدٍ آخر يجب الالتفات إليه وهو نتيجة لترك القرآن كمرجع ناسخ للأحاديث كان له الأثر الأكبر في فهم الاختلافات، فمثلًا قول الله تعالى؛{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي}، قد نسخ القتال على مطلقه إلّا للدفاع ورفع الظلم، فمثلا قول سيد المرسلين ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، … إلخ"، فالعلماء الربانيين يرون أن قتال الرسول في هذا الحديث هو الاجتهاد في اقناع الناس حتى يؤمنوا، وإلّا أصبح حاله متناقضًا مع ماجاء من عند الله، وإن كان القصد بذلك القتال فعلًا، فإن القرآن قام بتعطيله حتى وإن جاء في مسلم والبخاري. وفي نفس السياق روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النّبي ﷺ قوله؛ "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا". فكيف يرى قتالهم حقًا حتى يؤمنون به وبرسالته، بينما يحذرنا في نفس الوقت بعدم قتل المعاهدين الذين لا يؤمنون بديننا.

لو سبرنا أغوار نهج الله سبحانه بعمقٍ أكثر لاتضح ما أُشكل علينا، أن المسئلة هي أن لكل مقامٍ وزمانٍ مقال، وأن فلسفة العقيدة تتغير حسب الزمان والمكان، فقد قال الله تعالى ؛{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة 106]، والله سبحانه وتعالى انزل أوامره حيث ينبغي ونسخها أو ابدلها لأمر هو بالغه فالله أعلم بخلقه، وليس كما يتهكم به الجهلة والملحدون في فهمهم الناقص، الذي يرون فيه أن الله غير رأيه وعدل عنه سبحانه وهو منزهٌ عن ذلك.

ومن وجهة العامة أن الاختلاف في محتوى بعض الأحاديث رغم صحتها مع نصوص القرآن وهي قليلة جدًا، قد فهموا غاياتها خطأً مما أوقعهم في غلو خطير استفاد منه المرجفون حتى ظهر لنا أمثال داعش و بكو حرام الذين لا يرونا الدين إلا من منظور النصوص التي تحث على الشدة والتي وردت في مؤلفات بعض العلماء وقد تكون وردت في الصحيحين كما ذكرت آنفًا.

ويتضح أن الاشكالات هي في التعاطي مع الأحاديث دون معرفة ولا يتم فيها اتباع المنهج العلمي الصحيح وأصوله وفهم النصوص التي قررها أهل العلم، فالآيات والأحاديث الأخذ بها على علّاتها قد لا تعطي البيان الفعلي للقارئ من غير ذوي الاختصاص. وقد شطح بعض شيوخنا الأفاضل من المعاصرين للأسف في مسئلة عدم كروية الأرض واعتبروا من يخالف ذلك كافرًا وكان الأولى لهم عدم الخوض فيه، مع أن الدلائل العلمية واضحةً وضوح الشمس في رابعة النهار علميًا وجاءت في القرآن كذلك في قوله سبحانه ؛{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } [الزمر ٥]. فظاهرة الليل والنهار لا تحدث غير على الأرض، وذِكر فعل يكور هو توافق الجسد مع الفعل يخبرنا بالكروية. وقد أثبت العلم بما لا يقطع الشك باليقين على كروية الأرض، هذا وأن ظاهرة كسوف القمر تحدث بأن الأرض تحجب ضوء الشمس عن القمر ويظهر بذلك ظلًا دائريًا، بل أن بعض الاقدمين من أهل الدين و الفكر أمثال ابن تيمية و ابن خلدون أقروا بكروية الأرض. ومن دواعي السخرية ظهرت لنا في وقتنا هذا نتوءات و زوائد من البشر تؤيد هذه الأفكار المخالفة، فما بالك بالأفكار المتطرفة التي تم حشو عقول الناس بها جعلتهم يعاملون الآخرين بالغلظة لمجرد اختلافهم معنا في العقيدة.

وهناك كوارث من الأفكار جُلبت للأسف من العقيدة اليهودية والنصرانية متطرفة تم أسلمتها وهي لم تذكر في القرآن اطلاقًا، بل أنه وصل التعدي على آيات الله بليّ أعناقها لتتوافق مع بعض الأحاديث التي قد تكون أصلًا ضعيفة، ونتيجة عدم التميز وانتشار الفكر الكهني لا زلتُ اسمع للأسف الدعاء ضد المشركين والكفرة على عواهنه في بعض منابر مساجدنا يُصدح به دون تميز بدلّا من الدعاء لهم بالهداية، فالله أمرنا بقتال من يعادينا وليس من يخالفنا، وإلّا لما نزلت سورة الكافرون التي توضح الأمر تمامًا بأن الدين رحمة، متوافقًا مع ما جاء في محكم آياته سبحانه؛{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}[الأنبياء ١٠٧].

إن الغلو في الدين و اظهاره بمظهر الوحشية وإراقة الدماء هو غاية أعداءه حتى يعطلوا انتشاره خشية أن يعود الإسلام إلى سؤدده كما كان في عهد آباءنا الذين بسطوا العدل وهدموا بيوت الباطل على رؤوس أصحابها، حتى أن اليهود لِمَ عُرف عن المسلمين بالرحمة لاذوا فرارًا إلى ديارهم من ديار النصارى الذين اذاقوهم صنوف الذل والمهانة. ومن بلاغة القرآن الرائعة قد يذكر الفعل في بطن الآية دون اظهاره، وهذا ما قد يجده البعض مجالًا خصبًا لتأويلات وكأن الله يوحي لهم، يخترعون من مخيلتهم، ومثالًا على ذلك قوله جل في علاه؛{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}[البقرة ٣٠], لم يذكر سبحانه هنا كيف عرفت الملائكة أن هذا المخلوق سيفسد في الأرض، إلّا وأن الله قد أوحى لها مسبقًا كما يوحي لأنبيائه.

وقد اخترع البعض قصة الجن الذين أفسدوا في الأرض، وغيرها من التكهنات التي لم ينزل الله بها من سلطان، ليس ذلك فحسب بل أنهم وصفوا الآية التي تقول ؛{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}[القلم ٤٢] أن الساق التي ذكرت هي ساق الله، وقد أنكر ذلك الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، فالآية تدل على موقف لمم ليس بهين والعرب كانت تصف هذا اليوم بيوم يكشف عن ساق مجازًا، كما جاء في قوله {يد الله فوق أيديهم}. فهل كان ورود كل هذه الاختلافات بعملٍ مقصودٍ، أم الجهل بلغة القرآن العربية القح كان له دورًا كبيرًا في توسيع رقعة التوهان والبعد عن منهج الله الفعلي. فالمشكلة ليست في الدين الإسلامي بل المشكلة في تطبيقه الخاطئ، مما جعل السفهاء يتهكمون عليه.