|

ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر.

الكاتب : الحدث 2023-04-04 12:11:27

بقلم : عثمان الأهدل …

ما أفسدته شهور العام في أرواحنا المثقلة، تصلحه أيام رمضان المباركة، وهي التحدي الأكبر بحق لامتحان إرادتنا في صيامه وقيامه، وخاصة أن العدو الأساسي مصفدًا وذليلًا لا يقدر على شيء، فيختلي الإنسان مع نفسه يروضها إن كانت فيه من الإرادة ما يكفي، وهي الفرصة التي منحنا الله فيها نغرف ما نشاء من الأجور رصيدًا تثقل موازين أعمالنا يوم القيامة. وعظمة هذا الشهر عن غيره هو أن الله أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، إذّ قال سبحانه «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَان»، أنزل القرآن في ليلة مباركة سميت بليلة القدر خيرٌ من ألف شهر فيها تنزل الملائكة وجبريل عليه السلام إلى الأرض يسلمون على المؤمنين الصائمين، ويستغفرون لهم «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِوَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِلَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍتَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍسَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ».

و قد أخفى الله وقت ليلة القدر لِيَجِدَّ المسلم فى طلبها، ويعمل من أجل الحصول على خيرها جل أيام الشهر الفضيل، ولذا قال سبحانه: « وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ » [القدر: 2-3]، إلّا أن بعض العلماء قصروها اجتهادًا على أنها تأتي فى العشر الأواخر تأسيًا برسول الله ﷺ، فقد كان يجتهد فيها أكثر من غيرها، ولكن الأصح والأعم أن نجتهد في كل أيامه، فنحن في أمس الحاجة لتكفير الذنوب، فإن نبي الأمة ﷺ مغفورٌ له ما تقدم وما تأخر، ونحن لا نطيق ما كان يفعله من قوة في الإيمان والإصرار، فقد عُرج به إلى السماء وأدرك كل الحقائق الكونية التي لا تتحملها عقولنا المحدودة.

وشهر رمضان رحمة لنا من الله العظيم الكريم الرؤوف بعباده، شهرٌ له أجوائه الروحانية تنبعث منه المحبة والتعاطف لتُآخي بين الناس وتكثر فيها صلة الأرحام، وفسحة لتعود النفس إلى فطرتها التي أفسدها الشيطان، فهو العدو الأوحد للإنسانية وحاقدٌ عليهم منذ أن فضل الله أباهم عليه، وأمره هو والملائكة أن يسجدوا له، سجدة تحية لا تعبُد، فتكبر وتعالى عليه فطرده الله من رحمته، ومن الحماقة أن نتبع خطواته ونترك ما أمرنا الله به ما يصون أنفسنا التي خلقها الله على فطرته الطيبة، فطرته التي جبلنا عليها ونحن في أرحام أمهاتنا، فقد قال سبحانه «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا»، فكيف بعد ذلك نسلم أنفسنا لهذا اللعين يسوقنا كالأغنام دون وعي ولا تميز.  

ولاشك أن هذا الشهر الفضيل فرصة قد لا تتكرر لبعضنا لذا علينا أن نراجع فيه خريطة أفكارنا ومعتقداتنا و ننبذ كل ما يعكر صفونا ويمزق لحمتنا كإخوة في الدين والعقيدة، و نزيح كل تباغض وكره زرعه بيننا أعوان الشيطان وجنوده الكفرة، ونجعل هذا الشهر محطة انطلاقة لعهدٍ جديد يحبه الله ورسوله لا تفرقنا نعرات الجاهلية التي زاد كيلها في زمننا هذا المتخم بالمفاسد، الذي قال عنه سيد الأنام ﷺ إن لم أكن مخطأً : «يأتي زمان على أمتي القابض على دينه كالقابض على جمرة من النار»، فأصبحت حياتنا للأسف لا تخلو من المغريات والملذات المهلكة، والذي أصبح الالتزام بالدين فيه من الصعوبة بمكان.

فالصيامُ لا يقتصر على الصوم وقراءة القرآن والتراويح والتهجد فحسب، بل الصيام عن كل ما يغضب الله والاستزادة بكل ما يرضيه بالليل والنهار، وأكثر الأعمال نفعًا هي التي تسعى فيها لقضاء حوائج الناس سواءً بالمال أو انهاء أعمالهم في أوقاتها دون تقصيرٍ أو تملل، والابتعاد عن الإعلام الذي لا يأتي منه غير الهم والغم، فإن مشاهدة القنوات الماجنة حتى وإن كان على سبيل المثال للاستنكار فإنك بمجرد مشاهدتها تشترك معهم في الإثم، ولا سيما لو علمنا أن هذه القنوات يأتي دخلها الأكبر من شركات الدعاية، فأنت في طبيعة الحال السلعة التي أغرتهم لنشر إعلامهم بها.

وكم من كلمة أودت بصاحبها إلى قاع نار جهنم وكم من كلمة رفعت صاحبها إلى جنات العُلى، فقد قال سبحانه «وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا»[الإسراء:36]، وقال سبحانه «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» [ق:18].، فاصحاب ساحات التواصل الاجتماعي الموقرين، ليتنا وأذكر نفسي قبلكم أن نبذر الخير بأقلامنا ونترفع عن القدح والتقليل بإخواننا الذين خالفونا في أمور الدنيا الفانية، فقد قال الحبيب  ﷺ «أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال ﷺ : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه فقد بهته» أخرجه مسلم، فتخيل ماذا يكون عظم الغيبة حينما يقرأها مليارات الناس وعلى مدى عمر حياة هذه الساحات، فإن الكلمة إن صدرت بين حفنة من الناس اقتصرت عليهم، ولكن إن نشرت عبر أثير الانترنت فهي أثقل وأعظم إثمًا. نسأل أن يغفر لنا ويرحمنا وينير دروبنا وأن يجعل مثوانا الجنة ويقبل منا ومنكم سائر أعمالنا من صيام وقيام في هذا الشهر الفضيل وأن يجعله حجة لنا لا علينا، إنه ولينا ونعم النصير.