|

باب ما جاء الطماطم

باب ما جاء الطماطم
2018-09-04 02:59:11

في نهاية القرن التاسع عشر احضر احد التجار المصرين بذور الطماطم الى مدينة حلب الشهباء فانجبت و آخصبت ، الى انها واجهت عدم تقبل والفة الحلبين لهذه النبته الغريبة التي اسموها في البداية ب”باذنجان افرنجي” نسبة لتشابهها بنبتة الباذنجان ، ولتميزها ايضاً انها قادمة من بلاد الفرنجة ،وحينها اصدر مفتي المدينة بتحريم اكلها وكان بعض بسطائهم يتشهد إذا ماذكرت أمامه أو رآها لتوهمه أنها من الخضار المحرّمة التي اخترعها الفرنجة والعياذ بالله ، وعلى الرغم من ذلك فقد ظهرت عدت اسامي لهذه النبتة الشيطانة العدوة كما صنفوها آنداك كمثل: “مؤخرة الشيطان” نظراً للونها الاحمر ، كما سميت بـ”كلب فرنجي” ، ومع مرور الايام تم تسميتها بالـ”الفرنجي” وبدأ بتقبلها بعضاً الحلبين الا انهم قد اقتصروا على الأخضر مطبوخاً لقناعتهم بأن الناضج منها والأحمر فاسد وفيه أذى ، لكن لم تمض سنين قليلة حتى تجاوز المجتمعي الحلبي تلك الفتاوي والنظريات الخزعبلية وعمّت الطماطم بلاد الشام حتى صارت من الاصناف الجيدة تسمى بـ”البلدية”.
في عشرينات القرن الماضي وقف علماء نجد و الحجاز بحجزم ضد استخدام الاجهزة اللاسلكية البرقيات واعتبروها وسائل شيطانية ، كما تكرر هذا الموقف في الاربعينينات ومع ظهور الراديو و وصفوه بانه عبارة عن حديدة تتكلم بما يضاهي قدرة الله في إنطاق خلقه، وفي التسعينات استمرت فتاوي التلفاز لنفس الاسباب ايضاً وتوسعت الفتوى لتشمل اجهزة الكاسيت والفيديو والتصوير الفوتغرافي وصولاً الى تحريم الدش، و الى مطلع الالفية الثالثة أُصدرت فتاوي بتحريم الانترنت و الاجهزة الخلوية المزودة بالكاميرا ليمنع دخولة الى المملكة لبضع سنوات .
وفي السياق نفسه تكررت معانات العالم العربي مع قضايا تحريم ورفض الوافد الحضاري ، برغم ان لم تستهويه قلوب الثقافة القومية العربية الا انه لا يلبث فترة من الزمن حتى يستألف ويتجنس ، وعلى غرار ذلك فهناك العديد من الامثال على تلك الفتاوي التي تلي اي مستحدث يبدأ في استوطان الجغرافيا العربية ، كمثل : آلة الطابعة التي اثير ذلك الأمر في بلاط السلطان العثماني بايزيد الثاني ثامن سلاطين بنى عثمان ، الا ان فقهاء الدولة العثمانية اعتبروها كبيرة من الكبائر التي لا تغفر واصدر فتوى بتكفير مستخدمها الى ان وصل الحكم بالاعدام ورأوا انها مفسدة ستفتح الباب على مصراعيه مثل طباعة الرسوم وتغير حروف القرآن، في نفس الوقت استغل اليهود هذا الموقف وقاموا بطباعة ترجمة عربية للتوراة وكذلك مبادئ تعلم العبرية وذلك سنة 1494م ،ايضا رجال الدين المسيحيين قاموا بنشر معارف وعلوم المسلمين من خلالها وهو ما ساهم بتنوير أوروبا، واستمر هذا التحريم لاكثر من قرنين من عمر هذه الامه والذي مازادها الا تراجعا وتخلفاً ، وبنفس المدة الزمنية استغرق تحريم القهوة في العالم الاسلامي نظرا لانها مفسدة للعقل والبدن وخطرها أشد من الخمر، ولم يتوقف الامر هنا بل انها دخلت في تحريم صنابير الماء التي دار جدل فقهي في أروقة الأزهر نهاية القرن التاسع عشر، عندما تم مد مواسير المياه وتركيب الصنابير في منازل القاهرة ، مما ادى ذلك الامر بالإضرار بعمل السقائين مما دفعهم للتوجه الى أئمة مذاهب السنة الاربع فاستجاب لهم أئمة الحنابلة وأفتوا بأن مياه الصنابير بدعة صريحة ولا تصلح للوضوء أو الطهارة، بينما أكد أئمة الشافعية أن الأمر بحاجة إلى بحث طويل، وفي المقابل أفتى أئمة الحنفية بإباحة مياه الصنبور وجواز الوضوء منها، ومن هنا جاءت تسمية المصريين للصنبور بالحنفية، وقس على ذلك دخول المجلات والصحف التي حرمت بسبب احتوائها على حقائق علمية غريبة مثل كروية الارض والتطعيم ضد الامراض كتطعيمات شلل الاطفال والتي رأوا فيه نوع من قطع النسل لدى المسلمين.
هذه الفتاوى الهشه التي ماتلبس مدة من الزمن الى انها تتلاشى كسحابة صيف ، بعكس فتاوى المحرمات الحقيقية فتبقى على حرمتها على الدوام والتي جاء فيها نص شرعي لايقبل التأويل “كالربا والخمر والميسر وأكل الميتة ولحم الخنزير” ولم تتغير او تضعف منذ موت محمد ﷺ ، ولم يختلف العلماء حولها أو حللها مذهب دون آخر، كما لم يأثر فيها أي تطور فكري أو تغير اجتماعي أو نظام سياسي ، ومن جهة أخرى يجب ان ندرك “نحن العامة” ان هناك فرق بين التشريع و الفقه وان عدم التفريق بينهم قد يضعنا في موقف محرج ، فالتشريع انتهى بوفاة نبينا محمد ﷺ ولم يعد من حق أحد بعده تحريم شيء لم يذكر في القرآن والسنة ، اما الفقه فهو إحكام العقل في هذه النصوص لشرح احكامها ولهذا أصبح الخلاف والتعدد من طبيعة الفقه والفقهاء ، البقاء والثبات والإجماع لا يكون إلا فيما جاء به نص شرعي صريح ومباشر لا يختلف فيه ، اما الفتاوي التي تتجاوز اقوال وافعال النبي ﷺ فهي اراء واجتهادات فرديه مصيرها السكون والزوال حتى وان تقبلها البعض هذه الايام !!، كما سئل أنس بن مالك عن بعض فتاواه القديمة فقال كلمة يجب أن تؤخذ كقاعدة في الفقه ذاته “كلٌ يُؤخذ منه ويُرد الا صاحب هذا القبر” مشيرا الى قبر النبي ﷺ .