شجرة التوت
عشقُ الاحسائِي لِلْغَرس في بيته وإِعتِنَائِه به على مدى أعوام لعلاقته الأزليّة بالأرض والنّبْت والخُضرة المُحِيطَة به في كُل أَرجاء الأحساء تلك الواحة الجميلة الغنية بثقافتها وتاريخها المُمتَد والقديم تجاوز ال ٥٠٠٠ سنة قبل الميلاد ليضع المزارع الأحسائي في مُحيطُه البيئي نَباتُه المُدَلل لِيُنْعِشَ فيه رئَة الأرض ويزيد سِوارُها الأخضر جَمالاً وَرَونَقا ويَنْقُلُه إلى مسكنه فلا يخلوا بيت من بيُوت الأحساء من الطّوق الأخضر فيَزرعون الشجر المُثمِر في البيوت فتَتَدلّى الأغصَان المُحمّلة بالثمار من أسوار المنازل فتزيد جمالها جمالًا وتزهو بها الأحياء وتلين بها النفوس ، وتلك سِمَة من سِمَاة أهل الأحساء من السّماحَة ولين الجانب والكرم في أبوابهم المفتوحة للجميع ، تمتاز الأحساء منذ القدم بازدواجية المهنة ما بعد التعليم ومهنة الصّناعة أو الفِلاحَة من مبدأ الأمان في إمتلاك الصّنعَة أو الحِرفة اليَدويّة وكانت الصِناعة في ذلك الزمن مصدر من مصادر الحياة الكريمة ومن أهمها الفلاحة والمهن اليدوية ، فتجد الموظف في سلك التعليم كمعلم أو إداري أو في أحد الوزارات يعمل في وظيفته ويتممها في ما تبقى من اليوم في ممارسة الصنعة أو الحِرفة اليدَويّة ليَبْقَى على مَأمَن من الفقر والجوع لو طرأ عليه طارئ في عمله ، وتتصدر الأحساء القائمة في العلم والمَعرِفة وإِتسَاع مًجَامِيع المُثَقّفِين والعُلمَاء في مجالات متعددة وكانت في زمن ليس بِبَعيد تُصدر المعلمين إلى باقي مُدن المملكة والهجر وكذلك القرى النائِيَة لما يمتلِكُه الأحسائي من سرعة التّكَيّف في أي بيئة يعيش فيها وأعتباد السفر لطلب الرزق .
ومن أهم المهن التي برز فيها الأحسائي على المستوى الاقليمي والخليجي هي صِناعة المَشالح الرجالية (البشت) لرجال الدولة من مُلُوك وأُمَراء ورجال أعمال وقامات علمية من وجهاء وعلماء ، ولجودة صناعته الحِرَفِية المُتقَنة ذاع صِيتُه بسرعة البرق وغَلَى ثمنُه وازداد الطلب عليه الى وقتنا الحاضر مما جعل المهنة في أَوَجّها في فترة الأربعينيات الميلادية لحاجة المهنة لزيادة الحرفيين وحلقات الخياطة للمشالح في أجواء عائلية (أي اسرة كاملة تعمل في هذه الصناعة) بين خيوطها الذهبية ، فتصنع البشوت الاحسائية بمسميات مختلفة منها البشت الملكي ، المخومس ، المتوسع ، الطابوق ، وأخيرًا المرايا ، ويتصف البشت الأحسائي بأنها اغلى المشالح في العالم ويستغرق العمل فيه من ١٢ الى ١٥ يوم من الصناعة اليدوية بأيدي أمهر الحرفين من أُسَر إشْتَهَرَت بتلك الصناعة ،
لكن ماهي العلاقة بين المشلح وبين الغرس في بداية مقالي ؟
المقدمة عبارة عن تمهيد وتقريب للفكرة لما سيُذكر في هذه السطور ، نعود إلى بداية مقالي هذا إلى المزارع العاشق لزراعة الأشجار المثمرة المتَدَلّية من أسوار المنازل بثِمَارِها بعد عناء سنوات من الاهتمام بالشجرة ومن أهمها شجرة التوت المظلومة حرفيًا في كل بيت فهي مُدَلّلَة عند زارعها ومظلومة من خارج أسوار البيت ، فعند موسم ثمار التوت ومن الأغصان المتدلية خارج سور المنزل تبدأ معاناة هذه الشجرة من محبين ثمارها وممن يستغلون موسمها في التجارة بمحصولها ، وتتم العملية لمحبين ثمارها دون المُتاجرين بها بالتقاط ما يَتَسَاقَط أرضا أو ما تَطَالُه اليد ، أما المتاجرين بثمارها فهو يُؤذِي الشجرة كثيرا فتُكسَر أغصانها في سبيل الحصول على أكبر كم من المحصول الوفير منها فكلما كانت الشجرة أكبر كانت معاناتها والظلم عليها أعظم ، وتبدا هنا معاناة أصحاب المنازل من إتلاف البيت برمي الحجارة في مقابل الحصول على الثمار ، فيقرر التخلص من الشجرة التي زرعها بيديه لكف الأذى والحفاظ على ممتلكاته ، فلم يستمتع هو بها ولا أنتفع بها المارة .
فالأحساء مثل شجرة التوت في نظر أهلها فلا إستظلوا بها ولا إنْتَفَعوا من ثِمَارِها ، وهذا ما يحصل اليوم من إرث عظيم ثقافيًا ومهنيًا وفنيًا وخبرات موسوعية في أغلب المجالات الفنية لما تحمله المنطقة من سمة متعارف عليها من التشعب في امتهان الشيء المتخصص وإحترافية عالية إخلاص وتفاني فيه ، فعندما يقرر منتج أو كاتب أو مخرج إظهار الإرث الأحسائي يظهر متواضعًا ركيكًا أو سطحي جدًا كما نراه اليوم في برامج التواصل الإجتماعي كمثل شجرة التوت ويعود ذلك لأسباب عدة وأهمها أهلها ( بلانا في ربعنا ) فعندما يقرر منتج تصوير عمل تاريخي للأحساء يبدأ في إستيراد خبرات قوية من خارج الخارطة المعنية بالعمل فيقع في فخ التوثيق لثقافة المنطقة لجهله باللباس والديكور والهيئة والمظهر وطرق المعيشة في الحياة اليومية فيدخل في دوامة لا نهاية لها ، عزيزي المنتج( أهل مكة أدرى بشعابها ) فنحن أعلم من غيرنا بطرق معيشَتِنا في تاريخ منطقَتِنا وفي سرد ثقافَتِنا وطرحها للمتلقي في الأعمال التلفزيونية والسينمائية فالظاهر منها قشور وترك الإثراء فيها الى مادون المستوى ليتحول الإرث الى قصص إعتاد المشاهد على رؤيتها في أعمال سابقة .
الأحساء تحمل تاريخ عظيم ومساحة جغرافية على الساحل الشرقي للمملكة كبيرة جدًا فنستعين بالخبرات الخاجية في تدوين ثقافتنا في الأعمال التلفزيونية والسينمائية!! ، وغالبًا ما تظهر على خلاف واقعها وتاريخها ويقع العمل في الأخطاء القاتلة .
( خل ثوبك رقعته منه وفيه ) ولا تستضعف طاقاتها وتستهين بها وتركنها على الرف .
عارف البحراني
٢٠٢٢/٥/٥