|

ما بينَ الحج والحد

ما بينَ الحج والحد
2019-08-16 05:03:50

«لقد رأيت شعائر دينية في بقاع كثيرة من الأرض، لكنني لم أر أبداً ما هو أكثر وقاراً وتأثيراً مما رأيته هنا».

هذا ما قاله الكاتب المستشرق رتشارد برتون حينما قدم في رحله لاستكشاف وسط وشرق الجزيرة العربية, واستوقف رحلته هذه الشعيرة العظيمة اثناء مروره بمكة المكرمة في موسم الحج متخفياً بزي رجلٍ مسلم .

لا عجب أن تتجه انظار العالم لبقعةٍ واحده لحدثٍ واحد وشعيره تحمل السلام الروحي لشتى الاطياف والاعراق والأجناس , مما يبعث الذهول في اذهان غير المسلمين لحقيقة هذا الدين العظيم .

تُصبحُ مكة في موسم الحج قلباً يحوي ملايين الحجاج الذين يَفدون اليها من بقاع الأرض لينعموا بجنة الشعور , حتى يعودوا إلى ديارهم بطهارةِ قلبٍ وسريره , انقياء كيوم ولدتهم امهاتهم .

كانت مكة ولازالت محط انظار ومطمع كل نفس لما حباها الله من مكانة وتميز منذُ القدم , منذُ أن دعا لها سيدنا إبراهيم عليه السلام بالأمن ورغد العيش , فقد كانت قريش تُفاخر العرب بكل ما تقدمه في موسم الحج من سقايةٍ و رفادة لخدمة الحجاج بشتى الطُرق رغم شُح الامكانات , وتوارث عهد الصحابة وما بعدهم هذا التشريف العظيم لتيسير الحج على القادمين إليها .

و اليوم يشهد العالم أجمع على ما تُقدمه المملكة العربية السعودية من جهود ملموسه تجاه الحرمين الشريفين ليس في موسم الحج فقط , بل على مدار العام .

ففي كل عام تُسخر المملكة كافة الخدمات على جميع الأصعدة أمنيه وصحيه واجتماعيه وارشاديه , بالإضافة لتطبيق المئات من المبادرات و الافكار المستحدثة والمبتكرة لموسم الحج تحديداً .

ومنها ما قدمته وزارة الصحة من مبادرة والتي تُعتبر الأولى بالمملكة في موسم الحج لهذا العام مبادرة” الترجمة الفورية” حيث تم توفير جهاز ترجمه فوريه للغة العربية في ظل تعدد اللغات واختلافها والتي قد يصل ل20 لغة , و ذلكَ لسهولة التواصل بين المرضى والأطباء وترجمة الحوارات فيما يتعلق بتشخيصهم .

اضافةً إلى جهاز قياس الاجهاد الحراري بمستشفى منى المثبت بسرير المريض , والذي يعمل على دفع الهواء مع الرذاذ المكثف مما يساهم في خفض مستوى الاجهاد وسرعة العلاج .

وما قامت به الوزارة من اداء عمليات القسطرة القلبية و القلب المفتوح وتتم جميعها بالمجان لضيوف الرحمن كل عام , حيث تم هذا العام إجراء 82 قسطرة قلبية و700 عملية قلب مفتوح منذ بداية موسم الحج بمدينة الملك عبد الله الطبية .

ايضاً ما قامت به الإدارة العامة للشؤون التوجيهية والإرشادية بالمسجد الحرام بترجمة محتوى الشاشات المتضمنة خطب ومواد توجيهية وإرشادية للحجاج والمعتمرين و الزوار من اللغة العربية إلى خمس لغات هي (الإنجليزية، والفرنسية والأردية, والمالية, والفارسية)..

و لا ننسى دور ابطال الكشافة وجهودهم المميزة , حيث تم تطوير مهامهم باستخدام التقنيات الحديثة والاعتماد على الخرائط الارشادية التي تم توزيع اكثر من مليون خريطة على الحجاج ودعمها بالتطبيقات الالكترونية , مما ساهم بشكل كبير في وصول الحجاج إلى مخيماتهم والتقليل من التائهين .

وفتح ابواب التطوع لأبناء وبنات الوطن وإعدادهم بالدورات وتطوير المهارات , و ذلكَ للمشاركة و المساندة في التوعية والارشاد بكلِ كفاءه.

ولا ننسى مختلف القطاعات العسكرية , الذين سطروا أروع المُثل في انسيابية مواسم الحج , حيث تشهد وسائل الأعلام واللقطات العابرة على الخدمات الانسانية ورُقيّ التعامل مع الحجاج صغيراً كانَ أم كبيراً , تعاملاً لم يكن فرضاً ولا جبراً بقدر ما كانَ ” دافعاً ايماني ” , ويكفي أن نرى بشاشة الحُجاج و دمعة مسنٍ اثناء دعاءه لمن قدم له العون , لنعرف حجم الرضا .

أن كل تلكَ الجهود وغيرها الكثير لم يُذكر , لخير شاهدٍ على ما اولاه سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمين محمد بن سلمان حفظهما الله , من تسخير كافة الامكانات لخدمة الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة , و لا يخفى على الجميع وقوف سيدي خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز للإشراف بنفسه كلَ عام على توافد الحجيج وتصعيدهم لأداء مناسكهم , وبذل ما يؤدي لإعمار هذه الأرض المباركة في سبيل خدمة الإسلام والمسلمين .

ولن ترتضي الأمة الإسلامية بأسرها بأن ” يُسيس” الحج , وبأن تعبث دويلات بأجندتها المغرضة للتقليل من كفاءة المملكة في حماية وخدمة ضيوف الرحمن , عن طريق شن الحملات الإعلامية في كافة وسائل الأعلام ووسائل التواصل الاجتماعيَ لتشويه صورتها , وتمرير الرسائل السلبية التي تُضعف دور المملكة وتُقلل من جهودها , ومحاولة زعزعة الصف الواحد والتشكيك بكفاءة الادوار والمؤسسات لتحقيق اهداف سياسيه ومذهبيه , فقد وصل الأمر ببث الافكار المغلوطة لحملات بعض الدول , مما زرعَ الخوف والتردد بأذهان قاصدي الحج , وهذا لا يمت للإسلام بِصله .
فالحج لا شعارات ولا تطرف ولا مذهبيه لا فسوقَ ولا جِدال , فشتان بين من يسعى لخدمة الحجيج وراحتهم وبذل كافة الامكانات ليؤدوا مناسكهم , وبين من اعتاد الخصومة ويسعى لتأليب الرأي العام لخدمة مصالحه الخفيَة .

وأقول بعد توفيق الله لنجاح حج هذا العام , والذي نفخرُ جميعاً به ونحمده عليه : أن الحج سلام , أمنٌ وأمان لم يشعر به الحاج في دولته كما شعرَ به اثناء اداءه لهذا الركن العظيم في هذه الأرض المباركة , فما بين الحج والحد حكاية أمان .