|

الدَّرس الغائب..؟!

2017-08-25 06:03:08

إنَّ الاعتزاز بالتّراث ليس من معانيه – أبدًا- تقديس الموتى، أو العيش معهم في القبور أو تحت التّراب؛ بل معناه النّفوذ إلى روح ذلك التّراث؛ نشتمّ منه روح العبقريّة، ونسعد من خلاله بروح الحقيقة؛ إنّه النّفاذ إلى جوهر المعاني حتّى تكون جزاء من كياننا، وتستحيل إلى طاقة تغذّي أرواحنا .
إنَّنا حينما نعتزّ بتراثنا الفكري الذي خلَّفه لنا جهابذة الفكر وعباقرة الأمّة؛ كالفارابي، والرازي، والكندي، وابن سيناء، وابن الهيثم، وابن البيطار، وابن النفيس، وابن ماجة، وابن الطفيل، وابن رشد، وابن خلدون .. لا يعنى ذلك أنَّنا نتلمّس لديهم فكرًا نُدين به اليوم ونحن على أعتاب العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في زمنٍ طغت فيه تباريح العلوم والمعارف وما يتبعهما من مكتشفات ومخترعات طالت كلّ مناحي الحياة في كلّ مكان وطأته قدم إنسان. كما أنّنا لا نتلمّس في ذلك الإحياء مذهباً عقليّاً نسير في هداه، ونخطو على خطاه، أو نبحث عن حلولٍ للكثير من المشكلات والمعضلات التي تطرح في عصرنا هذا، خاصّة وهو يعيش تحت وطأة والأزمات وتداعي الأمم علينا؛ كلا..؛ فلا أظنّ أن كُتب أولئك العباقرة تستطيع أنْ تدفعَ عنّا هذا التّداعي وهذا الضّعف، وتصرف عنّا غلواء تلك الأزمات المتتالية؛ ولكنَّها تستطيع – بلا شكّ- في دفعنا لفهم واقعنا من خلال ما حوته تلك الكُتب وهي تحمل بين دفّتيه أرواح وأنفاس أصحابها وتجلياتهم الفكريّة.
إنّنا عندما نعتزّ بعظماء الأمّة كأولئك المذكورين سلفاً، وننتسب إليهم؛ فإنّنا نستلهم منهم حبّهم للحقيقة، ونستوحي عنهم رغبتهم الصّادقة بحثاً عنها، ونستشعر عزيمتهم الملحّة في طلبها.
إنَّ القارئ لديون المتنبي – مثلاً- يجب أن يقرأه قراءة إحياء حيث يخرج منها بعد القراءة وقد تسربلت في عروقه كبرياء هذا الشّاعر، وإيمانه بذاته، ودفاعه عن عروبته؛ فضلاً عن السّعي إلى تحقيق أهدافه حتّى الممات.
وإنّ قارئ لابن الهيثم – أيضاً- يجب أن يتقمّص ابن الهيثم؛ بحيث يخترق ضلوعه، ويسري في شرايينه كي يرى بعين ابن الهيثم، ويفكر بعقل ابن الهيثم في رؤيته للكون، وتحليله للأحداث، وتفكّره في ظواهر الأشياء وهو يتطلّع إلى اكتشاف الحقيقة، والوصول إليها، وسبر أغوارها، والوصول إلى كنهها.
إنّ عملية إحياء التّراث بشقيه العربي والإسلامي عمليّةٌ قوميّةٌ وإسلاميّة بالدّرجة الأولى؛ ناهيك عن أنّها إسهام إنساني يحمل همّاً عالميّاً حضاريّاً.
إنّ ممّا يؤسف له أنّ أكثر المشتغلين على عمليّة إحياء التّراث قَصَروا عملهم في الإحياء على تحقيق الكُتب وتخريجها، وهي عملية تقف عند القشور وتتغافل اللباب والجوهر، وتناسوا أنّ ذلك الإحياء يجيب أن يكون تصحيحًا للنّفوس ومعايشةً لأهرامات الفكر وقامات التّراث وما يتبعهما من قيم تاريخيّة وحقائق مغيبة.
إنّ إحياء التّراث لا يعني مجرد إعادة تحقيق كتب القديمة وتصدرها على ارفف المكتبات – مع يقيني بعدمية وجدوى المضمون التي تحمله وقد تخطاها الزّمن وتجاوزها بقدر ما يعني الاندماج فيها، وتذوق أرواح أصحابها حتّى نستطيع القول بأنّنا جديرون بأولئك السّلف واستمرار لهم في التّرابط الرّوحي والفكري!!